فأمّا قول الشاعر (٣) :
يريد الرّمح صدر أبي براء |
|
ويرغب عن دماء بني عقيل |
فليس يصح حمله على مقاربة الفعل ، كما قلنا في قوله سبحانه : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) لأنه لا يستقيم على الكلام أن يقول : يكاد الرمح صدر أبي براء. وإنما ذلك على سبيل الاستعارة ، لأن صاحب الرمح إذا أراد ذلك كان الرّمح كأنه مريد له. فأما قول الراعي يصف الإبل :
في مهمه فلقت به هاماتها |
|
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا (١) |
فإنه بمعنى مقاربة الفعل ، لأنّ الفؤوس إذا فلقت في نصبها قاربت أن تسقط ، فجعل ذلك كالإرادة منها. والنّصول هاهنا مصدر نصل نصولا ، مثل وقع وقوعا. وهذا البيت من أقوى الشواهد على الآية.
وقوله سبحانه : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الآية ٩٩] وهذه استعارة. لأنّ أصل الموجان من صفات الماء الكثير ؛ وإنما عبّر سبحانه بذلك عن شدة اختلافهم ، ودخول بعضهم ، في بعض لكثرة أضدادهم ، تشبيها بموج البحر المتلاطم ، والتفاف الدّبا (٢) المتعاظل.
وقوله سبحانه : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) [الآية ١٠١]. وهذه استعارة. وليس المراد ، أن عيونهم على الحقيقة كانت في غطاء يسترها ، وحجاز يحجزها. وإنما المعنى : أنّهم كانوا ينظرون فلا يعتبرون ، أو تعرض لهم العبر فلا ينظرون. ومن الدليل على ذلك قوله تعالى : (عَنْ ذِكْرِي) لأن الأعين لا توصف بأنها في غطاء عن ذكر الله تعالى ، لأن ذلك من صفات ذوي العيون. وإنما المراد ، أنّ أعينهم كانت تذهب صفحا عن مواقع العبر ، فلا يفكّرون فيها ، ولا يعتبرون بها ، فيذكرون الله سبحانه عند إجالة أفكارهم ، وتصريف خواطرهم. وهذا من غرائب القرآن وعجائبه ، وغوامض هذا الكلام ومناسبه.
وقوله سبحانه : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
__________________
(١). لم ينسب هذا البيت لقائله في القرطبي ج ١١ ص ٢٦.
(٢). الدّبا : الجراد الصغير ، أو النمل. والمتعاظل : المتراكب بعضه في بعض وفي المعجم الوسيط : الدّبى بالألف المقصورة.