لم ينيبوا من تكذيبهم رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم أنه محلّ بهم من العذاب مثل الذي أحل بهم. أي فهو تسلية للرسول صلوات الله عليه ، وتهديد لهم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥)
(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي : أفعجزنا عن الإبداء ، حتى نعجز عن الإعادة ، فالهمزة للإنكار. قال الشهاب : العي هنا بمعنى العجز ، لا التعب. قال الكسائي : تقول (أعييت) من التعب و (عييت) من انقطاع الحيلة ، والعجز عن الأمر. وهذا هو المعروف والأفصح ، وإن لم يفرق بينهما كثير. و (الخلق الأول) هو الإبداء على ما ذكر ، ويحتمل أن يراد به خلق السماوات والأرض ، لأن خلق الإنسان متأخر عنه. ويدل له آية (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ...) [الأحقاف : ٣٣] الآية.
وقوله : (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) عطف على مقدر ، يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم معترفون بالخلق الأول ، فلا وجه لإنكارهم للثاني ، بل هم اختلط عليهم الأمر والتبس ، لعدم فهمهم إعادة ما مات وتفرق أجزاؤه وإعراضهم عن سلطان القدرة الإلهية ، وسهولة ذلك في المقدورات الربانية.
لطيفة :
قال الناصر : في الآية أسئلة ثلاثة : لم عرّف الخلق الأول ، ونكّر اللبس ، والخلق الجديد؟
فاعلم : أن التعريف لا غرض منه إلا تفخيم ما قصد تعريفه وتعظيمه ، ومنه تعريف الذكور في قوله (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، ولهذا المقصد عرف الخلق الأول ، لأن الغرض جعله دليلا على إمكان الخلق الثاني بطريق الأولى. أي إذا لم يعي تعالى بالخلق الأول ، على عظمته ، فالخلق الآخر أولى أن لا يعيى به. فهذا سر تعريف الخلق الأول.
وأما التنكير فأمره منقسم : فمرة يقصد به تفخيم المنكر ، من حيث ما فيه من الإبهام ، كأنه أفخم من أن يخاطبه معرفة. ومرة يقصد به التقليل من المنكر ، والوضع منه. وعلى الأول (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٨٥] ، وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [المائدة : ٩] و [الحجرات : ٣] ، و (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ)