القول في تأويل قوله تعالى :
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (١٩)
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) قال ابن جرير : أي لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، فأنساهم حظوظ أنفسهم من الخيرات.
وقال القاشاني : (نَسُوا اللهَ) أي بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية ، والاشتغال باللذات النفسانية (فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه ، فذهلوا عن الجوهرة القدسية ، والفطرية النورية.
وقال ابن القيّم في (دار السعادة) : تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما. وهو أن من نسي ربه ، أنساه ذاته ونفسه ، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه ، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه ، في معاشه ومعاده ، فصار معطلا مهملا ، بمنزلة الأنعام السائبة بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه ، لبقائها علي هداها الذي أعطاها إياه خالقها. وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها ، فنسي ربه. فأنساه نفسه وصفاتها ، وما تكمل به ، وتزكو به ، وتسعد به في معاشها ومعادها. قال تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف : ٢٨]. فغفل عن ذكره ربه ، فانفرط عليه أمره وقلبه ، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله ، وما تزكو به نفسه وقلبه ، بل هو مشتت القلب مضيعه ، مفرط الأمر ، حيران لا يهتدي سبيلا ، فالعلم بالله أصل كل علم ، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ، ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها ، وما تزكو به وتفلح به. فالعلم به سعادة العبد ، والجهل به أصل شقاوته ، انتهى.
(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وخانوا وغدروا ، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
القول في تأويل قوله تعالى :
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ) وهم الناسون الغادرون (وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم. (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : بالنعيم المقيم.