فخرج صاحبه عن الإنسانية ، وقد أفاد ما لم يطابق من اعتقاد وقوع غير الواقع ، فدخل في حد الشيطنة ، فاستحق المقت الكبير عند الله ، بإضاعة استعداده ، واكتساب ما ينافيه من أضداده. وكذا الخلف ، لأنه قريب من الكذب ، ولأن صدق العزم وثباته من لوازم الشجاعة التي هي إحدى الفضائل اللازمة لسلامة الفطرة ، وأول درجاتها. فإذا انتفت انتفى الإيمان الأصلي بانتفاء ملزومه ، فثبت المقت من الله. انتهى.
لطيفة :
قال الزمخشري : هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه. قصد في (كَبُرَ) التعجب من غير لفظه. ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين. وأسند إلى (أَنْ تَقُولُوا) ، ونصب (مَقْتاً) على تفسيره ، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص ، لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ (المقت) لأنه أشد البغض وأبلغه ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا ، حتى جعل أشده وأفحشه. و (عند الله) أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته.
قال الناصر : وزائد على هذه الوجوه الأربعة وجه خامس ، وهو تكراره لقوله : (ما لا تَفْعَلُونَ) وهو لفظ واحد ، في كلام واحد. ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام.
القول في تأويل قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال القاشاني : لأن بذل النفس في سبيل الله لا يكون إلا عند خلوص النفس في محبة الله ، إذ المرء إنما يحب كل ما يحب من دون الله لنفسه. فأصل الشرك ومحبة الأنداد ، محبة النفس. فإذا سمح بالنفس ، كان غير محب لنفسه ، وإذا لم يحب نفسه فبالضرورة لم يحب شيئا من الدنيا. وإذا كان بذله للنفس في اللهو وفي سبيله لا للنفس ، كما قال ـ ترك الدنيا للدنيا ـ كانت محبة الله في قلبه راجحة على محبة كل شيء ، فكان من الذين قال فيهم : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥] ، وإذا كانوا كذلك يلزم محبة الله إياهم ، لقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] ، انتهى.
تنبيهات :
الأول ـ في ذكر هذه الآية عقيب مقت المخلف دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار ، فلم يفلوا. انتهى.