وإن الله عزوجل قال : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، فما أجد لك مخرجا. عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، وإن الله عزوجل قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) في قبل عدتهن. وهذا حديث صحيح (١) ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم ، وهذا فهم من دعا له النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن يفقّهه الله في الدين ، ويعلمه التأويل ، وهو من أحسن الفهوم كما تقرر.
الوجه الثاني : من الاستدلال بالآية قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) وهذا إنما هو في الطلاق الرجعيّ ، فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة ، لسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصحيحة التي لا يطعن في صحتها ، الصريحة التي لا شبهة في دلالتها ، فدل على أن هذا حكم كلّ طلاق شرعه الله تعالى ، ما لم تسبقه طلقتان قبله. ولهذا قال الجمهور : إنه لا يشرع له ، ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض. وأبو حنيفة قال : يملك ذلك ، لأن الرجعة حقه ، وقد أسقطها. والجمهور يقولون : ثبوت الرجعة ، وإن كان حقا له ، فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة ، أو باستيفاء العدد ، كما دل عليه القرآن.
الوجه الثالث : أنه قال : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة ، فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما.
الوجه الرابع : أنه سبحانه قال : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن ، وهم الصحابة ، أن الأمر هنا هو الرجعة. قالوا : وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟
الوجه الخامس ـ قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) فهذا حكم كل طلاق شرعه ، إلا أن يسبق بطلقتين قبله. وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَ) في قبل عدتهن كما تقدم ـ وهذا حق ، فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق في طهر أو أطهار ، قبل رجعة أو عقد ـ كما تقدم ـ لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة ـ فلأن تدل على تحريم الجمع ، أولى وأحرى.
قالوا : والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة ، لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبه ، وقد وقّت للعدة أجلا لاستدراك ألفاظه بالرجعة ، فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها ، لأنه وقت نفرته عنها ، وعدم
__________________
(١) أخرجه أبو داود في : الطلاق ، ١٠ ـ باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، حديث رقم ٢١٩٧.