لعدم ما يمنع منه ، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين : إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء ، كما هي كذلك للرجال ، فمعنى قوله تعالى (سائِحاتٍ) مسافرات ، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة. وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم لهن ، حفظا لهن.
ثم قال : كأن الذي دعا البعض لتفسير (السائحات) بالصائمات ، أو بخصوص المهاجرات ، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب ، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد ، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء ، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة ، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد؟! وأما قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، فكأنه مخصوص بالرجل ، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة ، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا ، بل للنصف منها ، وهو الرجال. وحاشا أن يكون ذلك! أين هديه صلىاللهعليهوسلم في سفره مع أزواجه؟ فقد كان يقرع بينهن ، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها ، وسافرت معه. وقد صار ذلك شريعة معمولا بها في الدين. وهكذا صح (١) أنه صلىاللهعليهوسلم لما قدم بصفية أردفها خلفه وهو مع الركب.
وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة ، بل إلى عدة غايات وفوائد :
أولا ـ إدراك المعقولات ، والإحاطة بعظات المسموعات ، كما نتعلمه من آية (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].
ثانيا ـ الوقوف على أحوال الأمم البائدة ، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار ، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [غافر : ٢١] ، وقوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الأدب ، ١٠٤ ـ باب قول الرجل جعلني الله فداك ، حديث رقم ٢٤٦ ، عن أنس بن مالك.