وقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨ و ١٢٣] ، وقال : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ، إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [لقمان : ٣٣] ، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة ؛ أن من تعلقوا به من دون الله ، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة ، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الذي بعث الله جميع رسله ، وأنزل جميع كتبه ، بإبطاله ، ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين. فأحدهما امرأة فرعون ، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله ، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة ، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله ، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به ، وهو أكفر الكافرين ، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين : مريم ، التي لا زوج لها ، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والتحذير من تظاهرهن عليه ، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله ، ويردن الدار الآخرة ، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما ، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة. ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر : وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا ، قذف أعداء الله اليهود لها ، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه ، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين ، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك ، وتوطين نفسها على