(ثُمَ) إشعار بأن الوعيد الثاني أشد. لأنها هنا للبعد والتفاوت الرتبيّ. فكأنه قيل : ردع وزجر لكم شديد ، بل أشد وأشد. وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله. ولذا خص عطفه ب (ثُمَ) غالبا. هذا ملخص ما في (العناية).
ثم ذكّرهم تعالى بدلائل قدرته وآيات رحمته ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) (١١)
(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي فراشا وموطئا تتمهدونها وتفترشونها (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي للأرض. أي أرسيناها بالجبال كما يرسي البيت بالأوتاد ، حتى لا تميد بأهلها فيكمل كون الأرض مهادا بسبب ذلك. قال الإمام مفتي مصر : وإنما كانت الجبال أوتادا لأن بروزها في الأرض كبروز الأوتاد المغروزة فيها ، ولأنها في تثبيت الأرض ومنعها من الميدان والاضطراب ، كالأوتاد في حفظ الخيمة من مثل ذلك. كأن أقطار الأرض قد شدت إليها ولو لا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب بما في جوفها من الموادّ الدائمة الجيشان.
(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي ذكورا وإناثا. قال الإمام : ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة وحفظ النسل وتكميله بالتربية.
(وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة ودعة ، يريح القوى من تعبها ويعيد إليها ما فقد منها. إطلاقا للملزوم وهو (السبات) بمعنى النوم ، وإرادة لّلازم وهو (الاستراحة). وقيل : السبات هو النوم الممتد الطويل السكون. ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم : إنه مسبوت وبه سبات. ووجه الامتنان بذلك ظاهر ، لما فيه من المنفعة والراحة ، لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة. وقد أفاض السيد المرتضى في أماليه في لطائف تأويل هذه الآية.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي كاللباس بإحاطة ظلمته بكل أحد ، وستره لهم.
قال الرازي : ووجه النعمة في ذلك ، أن ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوّ أو بياتا له ، أو إخفاء ما لا يحب الإنسان إطلاع غيره عليه. قال المتنبي :
وكم لظلام الليل عندي من يد |
|
تخبّر أن المانوية تكذب |
وأيضا ، فكما أن الإنسان ، بسبب اللباس ، يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع