ونساء فخدّوا لهم أخدودا ، ثم أوقدوا فيه النيران ، فأقاموا المؤمنين عليها. فقالوا : تكفرون أو نقذفكم في النار.
وقال مجاهد : كان الأخدود شقوقا بنجران. كانوا يعذبون فيها الناس ـ وتفصيل النبأ ـ على ما في كتاب (الكنز الثمين) ـ إن دعوة المسيح عليهالسلام الأولى العريّة عن شوائب الإلحاد ، لما دخلت بلاد اليمن وآمن كثير من أهلها ، كان في مقدمة تلك البلاد بلدة نجران. وكان أقام عليها ملك الحبشة أميرا من قبله نصرانيّا مثله. وكان بها راهب كبير له الكلمة النافذة والأمر المطاع. ثم إن اليهود الذين كانوا في تلك البلاد تآمروا على طرح نير السلطة المسيحية من اليمن ، والإيقاع بمن تنصر ، بغضا في المسيحية وكراهة لسلطان مسيحي يملكهم. فأقاموا رجلا يهوديا منهم عند موت ذلك السلطان أو قتله. فأشهر ذلك ؛ اليهودي نفسه ملكا على بلاد سبأ. وجاء لمحاربة مدينة نجران ، واستولى عليها بالتغلب والقوة والخيانة. ولما دخلها قتل عددا عظيما من سكانها رجالا ونساء. كانت عدتهم ـ فيما يقال ـ ثلاثمائة وأربعين شهيدا. وأتى بذاك الراهب محمولا يحف به الجنود. وكان هرما لا يقوى على المشي. فسئل عن عقيدته فأقر بالإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسوله عيسى عليهالسلام. فأمر بسفك دمه فقتل. وكذلك بقيه الشهداء اعترفوا بما اعترف به دون جبن ولا تهيب ، بل بشجاعة وصبر على ما يشاهدونه من أفانين العذاب وأخاديد النيران. ثم ألقت امرأة بنفسها في النار وتبعها طفل لها في الخامسة من عمره. وكل هؤلاء الشهداء أظهروا من السرور بالتألم من أجله تعالى ، والفرح بالشهادة ، ما أضحوا مثالا وعبرة لكل مفتون من أجل إيمانه ومدافعته عن يقينه. سواء افتتن بماله أو نفسه أو بسلب حق له. لا جرم أن من تلا ما ورد في الوعد الصادق لكل مفتون في الدين ، استبشر بما أعد للمخلصين الصابرين. وتسمى هذه القصة عند النصارى شهادة الحبر أراثا ورفقته. ويؤرخونها بعام (٥٢٤) من التاريخ المسيحي وقد علمت أن في كلام مجاهد ومن قبله إشارة إليها. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) (١٠)
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي بلوهم بالأذى ليرجعوا عن إيمانهم. قال أبو السعود : والمراد بهم. إما أصحاب الأخدود خاصة ، وبالمفتونين المطروحون في الأخدود ، وإما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الإطلاق وهم داخلون