وهاتان الجملتان (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) جاءتا بعد الوصية بالوالدين عموما ، تأكيدا لحق الأم ، وبيانا لما تبذله من جهد شاق في سبيل أولادها ، تستحق من أجله كل رعاية وتكريم وإحسان.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فقوله : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟
قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بحقها العظيم مفردا ، ومن ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن قال له : من أبر؟ قال : «أمك ثم أمك ثم أمك ، ثم قال بعد ذلك : «ثم أباك» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) بيان لما تستلزمه الوصية بالوالدين أى : وصينا الإنسان بوالديه حسنا ، وقلنا له : اشكر لخالقك فضله عليك ، بأن تخلص له العبادة والطاعة ، واشكر لوالديك ما تحملاه من أجلك من تعب ، بأن تحسن إليهما ، واعلم أن مصيرك إلى خالقك ـ عزوجل ـ وسيحاسبك على أعمالك ، وسيجازيك عليها بما تستحقه من ثواب أو عقاب.
ثم بين ـ سبحانه ـ حدود الطاعة للوالدين فقال : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ..
والجملة الكريمة معطوفة على قوله (وَوَصَّيْنَا.) .. بإضمار القول. أى : ووصينا الإنسان بوالديه. وقلنا له : (وَإِنْ جاهَداكَ) أى : وإن حملاك (عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي) في العبادة أو الطاعة ، (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) في ذلك ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وجملة (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لبيان الواقع ، فلا مفهوم لها ، إذ ليس هناك من إله يعلم سوى الله ـ عزوجل ـ.
ثم أمر ـ سبحانه ـ بمصاحبتهما بالمعروف حتى مع كفرهما فقال : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً).
أى : إن حملاك على الشرك. فلا تطعهما ، ومع ذلك فصاحبهما في الأمور الدنيوية التي لا تتعلق بالدين مصاحبة كريمة حسنة ، يرتضيها الشرع ، وتقتضيها مكارم الأخلاق.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٩٤.