أو المعنى : ولقد فتنا الذين من قبلهم من المؤمنين السابقين ، كأتباع نوح وهود وصالح وغيرهم ، فليجزين الذين صدقوا في إيمانهم بما يستحقون من ثواب ، وليجزين الكاذبين بما يستحقون من عقاب ، ولترتب المجازاة على العلم ، أقيم السبب مقام المسبب.
قال الإمام ابن جرير : قوله : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا.) .. أى : فليعلمن الله الذين صدقوا منهم في قولهم آمنا ، وليعلمن الكاذبين منهم في قولهم ذلك ، والله عالم بذلك منهم ، قبل الاختبار ، وفي حال الاختبار ، وبعد الاختبار ، ولكن معنى ذلك : وليظهرن الله صدق الصادق منهم في قوله آمنا بالله ، من كذب الكاذب منهم ...
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين ، عذبهم المشركون ، ففتن بعضهم ، وصبر بعضهم على أذاهم ، حتى أتاهم الله بفرج من عنده» (١).
وفي معنى هاتين الآيتين وردت آيات كثيرة منها قوله ـ تعالى ـ : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (٢) وقوله ـ تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ..) (٣).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٤).
وقد ساق الإمام القرطبي عند تفسيره لهاتين الآيتين من سورة العنكبوت عددا من الأحاديث النبوية ، منها قوله : روى البخاري عن خباب بن الأرت قالوا : شكونا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنا له : ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال : «قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض ، فيجعل فيها ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه ، فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ، فما يصرفه ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون» (٥).
والخلاصة ، أن المقصود من الآيتين تنبيه الناس في كل زمان ومكان ، إلى أن ظن بعض الناس بأن الإيمان يتعارض مع الابتلاء بالبأساء والضراء ، ظن خاطئ ، وإلى أن هذا الابتلاء سنة ماضية في السابقين وفي اللاحقين إلى يوم القيامة.
__________________
(١) تفسير ابن جرير ج ٢٠ ص ٨٣.
(٢) سورة آل عمران الآية ١٤٢.
(٣) سورة التوبة. الآية ١٦.
(٤) سورة محمد. الآية ٣١.
(٥) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٣٢٤.