وإنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة عليه وحده ـ سبحانه ـ ، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء ، فهو صادر عنه ، ومرجعه إليه ، إذ هو الخالق لكل شيء ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم ، هو في الحقيقة حمد له ـ تعالى ـ ، لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي وفقهم لذلك ، وأعانهم عليه.
وقد اختار ـ سبحانه ـ افتتاح هذه السورة بصفة الحمد ، دون المدح أو الشكر ، لأنه وسط بينهما ، إذ المدح أعم من الحمد ، لأن المدح يكون للعاقل وغيره ، فقد يمدح الإنسان لعقله ، وتمدح اللؤلؤة لجمالها ، أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر عنه من إحسان.
والحمد أخص من الشكر ، لأن الشكر يكون من أجل نعمة وصلت إليك أما الحمد فيكون من أجل نعمة وصلت إليك أو إلى غيرك (١).
وفي القرآن الكريم خمس سور اشتركت في الافتتاح بقوله ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ..) وهي سورة الفاتحة ، والأنعام ، والكهف ، وسبأ ، وفاطر.
ولكن لكل سورة من هذه السور ، منهج خاص في بيان أسباب أن الحمد لله ـ تعالى ـ وحده.
وقد أحسن القرطبي ـ رحمهالله ـ عند ما قال : فإن قيل : قد افتتح غيرها أى : سورة الأنعام ـ بالحمد لله ، فكان الاجتزاء بواحدة يغنى عن سائره؟ فالجواب أن لكل واحدة منه معنى في موضعه ، لا يؤدى عن غيره ، من أجل عقده بالنعم المختلفة ، و ـ أيضا ـ فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون (٢).
والمعنى : الحمد الكامل الشامل لله ـ تعالى ـ وحده ، لأنه هو ، الذي له ما في السموات وما في الأرض ، خلقا وملكا وتصرفا ، بحيث لا يخرج شيء فيهما عن إرادته ومشيئته.
قوله : وله الحمد في الآخرة ، تنبيه إلى أن حمده ـ عزوجل ـ ليس مقصورا على الدنيا ، بل يشمل الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون يحمدونه في الدنيا على ما وهبهم من نعم الإيمان والإحسان ، ويحمدونه في الآخرة على ما منحهم من جنة عرضها السموات والأرض ، ويقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ، وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) (٣).
__________________
(١) راجع تفسيرنا لسورة الأنعام ص ٢٧.
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٨٤.
(٣) سورة الزمر. الآية ٧٤.