ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها ، أصبتم الحق ، وتخلصتم من الباطل ـ ، وهي : أن تقوموا لوجه الله خالصا ، متفرقين اثنين اثنين ، وواحدا واحدا ، (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في أمر محمد صلىاللهعليهوسلم وما جاء به.
أما الاثنان : فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه ، وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ، ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح ، والنظر الصحيح على جادة الحق.
وكذلك الفرد : يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ، ويعرض فكره على عقله وذهنه ، وما استقر عنده من عادات العقلاء ، ومجاري أحوالهم. والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى ، أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمى البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول. ومع ذلك يقل الإنصاف ويكثر الاعتساف : ويثور عجاج التعصب (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) كلام مستأنف جيء به لتنزيه ساحته صلىاللهعليهوسلم عما افتراه عليه المفترون من كونه قد أصيب بالجنون.
أى : اجتمعوا اثنين اثنين ، أو واحدا واحدا ، ثم تفكروا بإخلاص وروية فترون بكل تأكيد أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس به شيء من الجنون ، إنما هو أرجح الناس عقلا ، وأصدقهم قولا ، وأفضلهم علما ، وأحسنهم عملا ، وأزكاهم نفسا ، وأنقاهم قلبا ، وأجمعهم لكل كمال يشرى.
وقوله ـ تعالى ـ (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) بيان لوظيفته صلىاللهعليهوسلم أى : ليس به صلىاللهعليهوسلم من جنون ، وإنما هو نذير لكم ، يحذركم ويخوفكم من العذاب الشديد الذي سينزل بكم يوم القيامة ، إذا ما بقيتم على شرككم وكفركم ، وهذا العذاب ليس بعيدا عنكم.
قال الإمام ابن كثير : قال الامام أحمد : حدثنا بشير بن المهاجر ، حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال : «أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم فقال : «إنما مثلي ومثلكم كمثل قوم خافوا عدوا يأتيهم. فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فبينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه وقال : أيها الناس أوتيتم. أيها الناس أوتيتم ...»
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٥٩٠.