فإن قلت : إلام أسند كان في قوله (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى)؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ).
فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت : «ليعم ويشمل كل مدعو ..» (١).
وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ).
كلام مستأنف مسوق لبيان من هم أهل للاتعاظ والاستجابة للحق.
أى : أنت ـ أيها الرسول الكريم ـ إنما ينفع وعظك وإنذارك. أولئك العقلاء الذين يخشون ربهم ـ عزوجل ـ دون أن يروه ، أو يروا عذابه ، والذين يؤدون الصلاة في مواقيتها بإخلاص وخشوع واطمئنان.
ثم حض ـ سبحانه ـ على تزكية النفوس وتطهيرها فقال : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) أى : ومن تطهر من دنس الكفر والفسوق والعصيان. وحصن نفسه بالإيمان ، والعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، فإن ثمرة تطهره إنما تعود إلى نفسه وحدها ، وإليها يرجع الأجر والثواب ، والله ـ تعالى ـ إليه وحده مصير العباد لا إلى غيره.
فالجملة الكريمة دعوة من الله ـ تعالى ـ للناس ، إلى تزكية النفوس وتطهيرها من كل سوء ، بعد بيان أن كل نفس مسئولة وحدها عن نتائج أفعالها ، وأن أحدا لن يلبى طلب غيره في أن يحمل شيئا عنه من أوزاره.
ثم ساق ـ سبحانه ـ أمثلة ، لبيان الفرق الشاسع بين المؤمن والكافر ، وبين الحق والباطل ، وبين العلم والجهل .. فقال ـ تعالى ـ : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ. وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ. وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ...
والحرور : هو الريح الحارة التي تلفح الوجوه من شدة حرها ، فهو فعول من الحر.
أى : وكما أنه لا يستوي في عرف أى عاقل الأعمى والبصير ، كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن ، وكما لا تصلح المساواة بين الظلمات والنور ، كذلك لا تصلح المساواة بين الكفر والإيمان ، وكما لا يتساوى المكان الظليل مع المكان الشديد الحرارة ، كذلك لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار.
فأنت ترى أن الآيات الكريمة قد مثلت الكافر في عدم اهتدائه بالأعمى ، والمؤمن بالبصير ، كما مثلت الكفر بالظلمات والإيمان بالنور ، والجنة بالظل الظليل ، والنار بالريح الحارة التي تشبه السموم.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٦٠٧.