ولا تعارض هنا بين قوله ـ تعالى ـ : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) وبين قوله ـ سبحانه ـ في سورة هود : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) لأنه يجوز أن الله ـ تعالى ـ جعل لإهلاكهم سببين : الأول : أن جبريل ـ عليهالسلام ـ صاح بهم صيحة شديدة أذهلتهم ، ثم رجفت بهم الأرض فأهلكتهم. وبعضهم قال : إن الرجفة والصيحة بمعنى واحد.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) بيان لما آل إليه أمرهم بعد هلاكهم.
والمراد بدارهم : مساكنهم التي يسكنونها ، أو قريتهم التي يعيشون بها وقوله : (جاثِمِينَ) من الجثوم ، وهو للناس والطيور بمنزلة البروك للإبل. يقال : جثم الطائر يجثم جثما وجثوما فهو جاثم ـ من باب ضرب ـ ، إذا وقع على صدره ولزم مكانه فلم يبرحه.
أى : فأصبحوا في مساكنهم هامدين ميتين لا تحس لهم حركة ، ولا تسمع لهم ركزا.
ثم أشار ـ سبحانه ـ بعد ذلك إلى مصارع عاد وثمود فقال : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ).
وعاد : هم قوم هود ـ عليهالسلام ـ وكانوا يسكنون بالأحقاف في جنوب الجزيرة العربية ، بالقرب من حضرموت.
وثمود : هم قوم صالح ـ عليهالسلام ـ وكانت مساكنهم بشمال الجزيرة العربية ، وما زالت مساكنهم تعرف حتى الآن بقرى صالح.
أى : وأهلكنا عادا وثمود بسبب كفرهم وعنادهم ، كما أهلكنا غيرهم ، والحال أنه قد تبين لكم ـ يا أهل مكة ـ وظهر لكم بعض مساكنهم ، وأنتم تمرون عليهم في رحلتي الشتاء والصيف.
فقوله ـ سبحانه ـ : (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) المقصود منه غرس العبرة والعظة في نفوس مشركي مكة ، عن طريق المشاهدة لآثار المهلكين ، فإن مما يحمل العقلاء على الاعتبار ، مشاهدة آثار التمزيق والتدمير ، بعد القوة والتمكين.
(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) السيئة. بسبب وسوسته وتسويله ، (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الحق ، وعن الطريق المستقيم.
(وَكانُوا) أى : عادا وثمود (مُسْتَبْصِرِينَ) أى : وكانت لهم عقول يستطيعون التمييز بها بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت له ، وإنما استحبوا العمى على الهدى ، وآثروا الغي على الرشد ، فأخذهم الله ـ تعالى ـ أخذ عزيز مقتدر.