والمراد بالعمل هنا هي عمليّة الاستنباط وأنّه كيف تستخلص الفروع من الأصول ، فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يفقّه أصحابه في الدّين ويهديهم إلى الترتيل والتفسير جميعا.
وقد سار على منهاجه كبار أصحابه وخيار التابعين والصفوة من عترته الطيّبين. كانوا قدوة للناس ، يعلّمونهم الكتاب والحكمة وفصل الخطاب ، الأمر الذي وفّر على الأمّة تراثا علميّا خالدا وفي حجم كبير وأصبح منهلا عذبا يتروّى منه الوافدون عبر الأعصار.
ولقد كان معينا صافيا وضافيا بالخير والبركات لو لا ما عكر صفو زلالها أكدار الدسّ والتزوير ، من دخائل إسرائيليّة وأخرى وضعتها يد الاختلاق وربّما تساهل بعض الأوائل في حشد تلك الأثار من غير تنقيح أو تهذيب ، ومن غير أن يخلصوا السليم عن السقيم ، ومن ذلك جاءت البليّة في الخلط بين الغثّ والسمين ، بما لا ينبغي.
وأوّل من جمع فأوعى واستكثر من لمّ الشوارد ، هو الإمام أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري (٢٢٤ ـ ٣١٠) ، سواء في تاريخه أو في التفسير. وهكذا أولع أصحاب المجاميع الحديثيّة ـ بشتّى أنحائها ـ بنقل تلك الآثار وحكاية تلك الأخبار ، وأكثرها من غير تمحيص.
وفي ذلك يقول العلّامة ابن خلدون (٧٣٢ ـ ٨٠٨) : وصار التفسير على صنفين ، تفسير نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السلف ، وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي ، وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنقل عن الصحابة والتابعين. وقد جمع المتقدّمون في ذلك وأوعوا ، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسّمين والمقبول والمردود. وجاء شاهدا لذلك بالطبري والواقدي والثعالبي وأمثالهم من المفسّرين.
ثمّ قال : والسبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وانّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما [كانوا] يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم ، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى.
وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ، ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ، ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهوديّة ، فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم