وسبق (١) أنّ لخفاء المعنى أسبابا وعللا منها ما يعود إلى اعتلاء المعنى وقصور اللفظ أو لإجمال هو بحاجة إلى بيان وتفصيل وما إلى ذلك ممّا لا يخلّ بفصاحة الكلام وبلاغته حسبما شرحناه. وبذلك يفترق التفسير عن الترجمة بأنّها حيث كان جهل بأصول الوضع ممّا ليس في رفعه على العارف بها كثير عناء.
والتأويل : مأخوذ من الأول بمعنى : الرجوع ، ليكون التأويل إرجاعا ، إمّا إلى الوجه المقبول ، كما في باب المتشابهات. أو إلى فحوى الآية العامّ ، بعد عدم صحّة الاقتصار على الظاهر الذي يبدو خاصّا حسب التنزيل.
فإنّ للتأويل مصطلحين عند أهل التفسير : أحدهما يختصّ بباب المتشابهات ، بمعنى : تأويل المتشابه من الأقوال (٢) أو الأعمال (٣) إلى الوجه المعقول المقبول. ومن ثمّ فهو نوع تفسير ، ينضمّ إلى رفع الإبهام عن الآية ، دفع الإشكال عنها أيضا ، ليكون رفعا ودفعا معا.
فالتأويل في باب المتشابهات ، هو بمعنى : توجيهها إلى الوجه الذي يقبله العقل والشرع.
والمصطلح الآخر للتأويل هو : تبيين المفهوم العامّ الخابئ وراء ستار اللفظ الذي يبدو خاصّا حسب التنزيل. فإنّ غالبيّة الآيات النازلة حسب المناسبات تبدو خاصّة بها لا تتعدّاها ظاهريّا ، فهذا يجعل من رسالة القرآن عقيمة مدى الأيّام ، غير أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أكّد على ضرورة استخلاص الآية من ملابساتها ، ولتكون ذات مفهوم عامّ وشامل لجميع الأقوام والأعصار.
[م / ٢٨] قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما في القرآن آية إلّا ولها ظهر وبطن».
[م / ٢٩] وقد سئل الإمام أبو جعفر الباقر عليهالسلام عن تفسير هذا الحديث فقال : «ظهره تنزيله وبطنه تأويله ، منه ما مضى ومنه ما لم يكن ، يجري كما تجري الشمس والقمر» (٤). وأضاف عليهالسلام :
[م / ٣٠] «لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية ، لما بقي من القرآن شيء ، ولكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض ، ولكلّ قوم آية يتلونها هم
__________________
(١) المصدر ١٧ ـ ٢١ و ٣ : ١٢.
(٢) كما جاء في قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران ٣ : ٧).
(٣) كما جاء في قصّة موسى وصاحبه : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف ١٨ : ٧٨).
(٤) بصائر الدرجات : ٢١٦ / ٧.