يقول الإمام الحافظ تقيّ الدّين ابن الصلاح ـ في فتاواه وقد سئل عن كلام الصوفيّة في القرآن ـ : الظنّ بمن يوثق به منهم أنّه إذا قال شيئا من أمثال ذلك ، أنّه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم ؛ فإنّه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنيّة ، وإنّما ذلك ذكر منهم لنظير ما ورد به القرآن ، فإنّ النظير يذكر بالنظير. ومن ذلك قتال النفس في الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)(١). فكأنّه قال : أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفّار ، ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك ، لما فيه من الإبهام والإلباس (٢).
يعني : أنّ ما يذكرونه بهذا الشأن لا يعنون به التفسير ولا تأويل الآية بذلك ، وإنّما الشيء يذكر بالشيء من باب «تداعي المعاني» فيخطر ببالهم خواطر هي نفحات قدسيّة ملكوتيّة عند تلاوة الآي أو استماعها عن وعي وحضور قلب.
فهم عند ما يستمعون إلى نداء الآية العامّ يراجعون أنفسهم ، وفي طيّهم كافر عات هو أقرب إليهم وأخطر من الكفّار البعداء ، فيجب مقاتلته قبل مقاتلة سائر الكفّار ، أخذا بقياس الأولويّة في منطق العقل الرشيد.
وهذا معنى قول سهل : النفس كافرة فقاتلها بالمخالفة لهواها ، واحملها على طاعة الله والمجاهدة في سبيله وأكل الحلال وقول الصدق وما قد أمرت به من مخالفة الطبيعة (٣).
فهذا المعنى العرفاني الرقيق مستفاد من فحوى الآية ومستنبط من بطنها بالمناسبة من غير أن يكون ذا صبغة تفسيريّة أو بيانا للمراد من الآية بالذات.
وقد صرّح بذلك الإمام القشيري في تفسيره للبسملة ، قال : وقوم عند ذكر هذه الآية يتذكّرون من الباء برّه بأوليائه ، ومن السين سرّه بأصفيائه ، ومن الميم منّته على أهل ولايته. فيعلمون أنّهم ببرّه عرفوا سرّه ، وبمنّته عليهم حفظوا أمره ، وبه سبحانه وتعالى عرفوا قدره ، إلى آخر ما ذكره بهذا الصدد. (٤) تراه لم يجعله تفسيرا للآية ، وإنّما هو تذكّر قلبي عند استماعها أو استماع حروفها من قبيل الخواطر القلبيّة محضا ، من غير أن يكون تحميلا على القرآن أو تفسيرا بالرأي.
__________________
(١) التوبة ٩ : ١٢٣.
(٢) راجع : التمهيد ١٠ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ ، عن فتاوى ابن الصلاح : ٢٩ (الذهبي ٢ : ٣٦٨).
(٣) راجع : تفسير السلمي ١ : ٢٩٢.
(٤) تفسير لطائف الإشارات للقشيري ١ : ٥٦.