مثلا عند ما يخاطب كفّار قريش العتاة ، يقاطعهم بصراحة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ)(١).
فكما أنّ عبادته صلىاللهعليهوآلهوسلم للأصنام ممتنعة ، في جميع الأحوال ، كذلك يقاطعهم أنّ عبادتهم لله تعالى ـ وهم على تلك الحالة من العتوّ والضلال ـ ممتنعة أبدا.
ومن المعلوم : أن ليس المقصود من الخطاب كلّ كافر على الإطلاق ، وعلى مرّ الأيّام ، بل كفرة عتاة وجحدة طغاة ، كانوا يجابهون الدعوة بكلّ لجاج وعناد.
فهي قضيّة شخصيّة خاصّة بالمشافهين حال الخطاب ، وليست حقيقيّة عامّة ذات الشمول.
قال سيدنا العلامة الطباطبائي ـ في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٢) ـ : هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر وتمكّن الجحود من قلوبهم ، ممّن عاندوا ولجّوا في مجابهة الدين ، حتّى أفنتهم الحرب في بدر. إذ لا يمكن اطّراد مثل هذا التعبير بشأن جميع الكفّار ، وإلّا لانسدّ باب الهداية ، والقرآن ينادي بخلافه. وهكذا وقع مثل هذا التعبير في سورة يس المكّيّة. كما أنّ المراد من (الَّذِينَ آمَنُوا) فيما أطلق في القرآن ـ من غير قرينة ـ هم السابقون الأوّلون من المسلمين ، خصّوا بهذا الخطاب تشريفا (٣).
والخطاب ، اختصاصا بأناس ، ليس من دأب الكتاب.
وغير ذلك من خصائص وميزات تجعل القرآن ذا أسلوب خطابي ، بعيدا عن أسلوب ترقيم الكتاب.
هنا سؤال لا بدّ من التنبّه له ، وهو : أنّ القرآن ، إذا كانت أكثر قضاياه شخصيّة ، هي قيد التاريخ ، فما هي الفائدة تعود إلى كافّة الناس ، والقرآن كتاب هداية عامّ؟!
وفي الإجابة على ذلك ، نلفت أنظار القارئين إلى جانب المفاهيم العامّة ، المستخرجة من بطون تلكم الآيات التي تبدو في ظاهرها خاصّة حسب التنزيل.
وقد نبّهنا فيما سبق : أنّ للقرآن ظهرا وبطنا ، ظهرا حسب التنزيل ، خاصّا بمن نزل في شأنهم بالذات قيد التاريخ ، وبطنا حسب التأويل ، هي مفاهيم عامّة ، سارية وجارية مع الأبد ، مستنبطة
__________________
(١) الكافرون ١٠٩ : ١ ـ ٣.
(٢) البقرة ٢ : ٦.
(٣) الميزان ١ : ٥٠.