ومن ثمّ فإنّ العكس هو الظاهر من السياق ، حيث قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) ، يدلّ بوضوح على تأخّر نزول الثانية عن الأولى بفترة ، ربما غير قصيرة ، مرّت خلالها تجربة عنيفة على المسلمين ، ظهر فيها ضعفهم وتثاقلهم عن التكليف الأوّل. فإنّ لفظة «الآن» تدلّ دلالة واضحة على تلك الفترة ، ولولاها لم يكن موقع لهذه اللفظة أصلا. وهكذا التعبير بالتخفيف يدلّ على تكليف شاقّ سابق ، الأمر الذي يتناسب مع كونه إلزاميّا لا الاستحباب. وأخيرا فإنّ قوله : (عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أيضا خير شاهد على هذا الفصل. إذ المعنى : ظهر أنّ فيكم ضعفا ، مما يتناسب مع وقوع تجربة ظهر خلالها ضعف المسلمين ووهنهم عن مناضلة أضعافهم بعشرات! (١)
***
وقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢) هذه الآية ضمنت سلامة القرآن عن تطرّق الحدثان. وهو ضمان إلهي ، والله لا يخلف الميعاد.
لكنّ بعض من يروقه القول بالشذوذ ، احتمل عود الضمير إلى المنزل عليه الذكر وهو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أي : وإنّا لمحمّد لحافظون (٣). فهي نظير قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(٤).
لكن لا رابط ـ سياقا ـ بين الآيتين ، بعد أن كانت الأولى في سورة مكّيّة (الحجر) (رقم نزولها : ٥٤). والثانية في سورة مدنيّة (المائدة) ولعلّها من أخريات السور المدنيّة (رقم نزولها : ١١٣).
هذا فضلا عن أنّ آية الحفظ مسبوقة ـ في نفس سورتها ـ بقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٥) ، في ثلاث آيات قبلها وهي تصلح قرينة لتعيين مراده تعالى من الذكر في آية الحفظ ، ولا دليل على إرادة خلاف ظاهر هذا السياق (٦).
وأمّا الشرط الثاني ، فالعناية بوحدة الموضوع في اتّجاه الآيتين أو سياق الآيتين ، لضرورة وجود الترابط بين الاتّجاهين.
مثلا قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(٧). وقعت هذه الآيات بين آيات تحدّثت عن أحوال القيامة وأهوالها ، سبقا ولحوقا.
__________________
(١) راجع : التمهيد ٢ : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.
(٢) الحجر ١٥ : ٩.
(٣) ذكره الفرّاء نقلا عن بعضهم (معاني القرآن ٢ : ٨٥) وانتهزه المحدّث النوري في فصل الخطاب : ٣٦٠.
(٤) المائدة ٥ : ٦٧.
(٥) الحجر ١٥ : ٦.
(٦) راجع : البيان للإمام الخوئي : ٢٢٦.
(٧) القيامة ٧٥ : ١٦ ـ ١٩.