الندم ، وجرعتهم مرّ المذاق وغصّصتهم بكأس الفراق ، فيا ويح من رضي عنها أو أقرّ عينا ، أما رأى مصرع آبائه ، ومن سلف من أعدائه وأوليائه أطول بها حيرة ، وأقبح بها كرّة ، وأخسر بها صفقة ، واكبر بها ترحة ، اذا عاين المغرور بها أجله وقطع بالأماني أمله ، وليعمل على أنه اعطي أطول الأعمار وأمدّها ، وبلغ فيها جميع الآمال ، هل قصاراه إلاّ الهرم ، وغايته إلاّ الوخم (١) نسأل الله لنا ولك عملا صالحا بطاعته ، ومآبا الى رحمته ، ونزوعا عن معصيته ، وبصيرة في حقّه ، فإنما ذلك له وبه » (٢).
وتأمّل قوله في نعتها ونعت ذويها : « كم من طالب للدنيا لم يدركها ، ومدرك لها قد فارقها ، فلا يشغلنّك طلبها عن عملك ، والتمسها من معطيها ومالكها ، فكم من حريص على الدنيا قد صرعته ، واشتغل بما أدرك منها عن طلب آخرته حتّى فني عمره وأدركه أجله » (٣).
وما أصدق قوله في تحليلها وأطوار الناس فيها : « ما الدنيا وما عسى أن تكون ، هل الدنيا إلاّ اكل اكلته ، أو ثوب لبسته ، أو مركب ركبته ، إن المؤمنين لم يطمئنوا في الدنيا ولم يأمنوا قدوم الآخرة ، دار الدنيا دار زوال ، ودار الآخرة دار قرار ، أهل الدنيا أهل غفلة ، إن أهل التقوى أخفّ أهل الدنيا مؤونة واكثرهم معونة ، إن نسيت ذكّروك ، وإن ذكّروك أعلموك ، فانزل الدنيا كمنزل نزلته فارتحلت عنه ، أو كمال أصبته في منامك فاستيقظت وليس في يدك شيء منه ، فكم من حريص على أمر قد شقي به حين أتاه ، وكم
__________________
(١) الثقل والرداءة.
(٢) مهج الدعوات ، في باب أدعية الصادق ، وقد أشرنا إليها في فصل استدعاء المنصور له في أوّل مرّة.
(٣) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه في أحوال الصادق عليهالسلام.