( المعاندة ) لزعمهم أنّها تعاند الحقيقة ، وفي الحقيقة هي تعاند الإرادة الجدّيّة ، فهو يأتي بها ، لأنه لا غرض له إلاّ بنفس الاستعمال وتصوّره لمعناه ، ويتعمّد الكاذب تركها لأنه يريد تصديق المخاطب به لغرض له هناك وراء تصوّر السامع وصرف الاستعمال ، فالمجاز إلى الكذب ما هو وليس به ، وليس هذا ببدع في المجاز ولا بأمر تختص به ، بل سبيله سبيل أشباهه من نكات الصناعة وتفنّنات البلغاء كالمراجعة (١) فكم تقول : قال لي الدهر كذا ، فقلت له كيت وكيت ، ولم يجز بينكما حديث قط.
وكالتجريد فإنك تجرّد من نفسك شخصا تخاطبه ويخاطبك ، وتنقل المفاوضة بينكما ولا واقع لها أصلا ، وإنما يتّضح الحال بالإكثار من الشاهد والمثال ، وبه تخرج عن موضوع الكتاب ، ولا يسعه المجال ، ويغنيك عنه تتبّع ما للبلغاء من المنظوم والمنثور.
قال أحد شعراء اليتيمة :
أرأيت ما قد قال لي بدر الدجى |
|
لمّا رأى طرفي يطيل هجودا |
حتّام ترمقني بطرف ساهر |
|
أقصر فلست حبيبك المفقودا (٢) |
متى وقع هذا الخطاب ، وبأيّ لغة كان الجواب ، فهل تسمح نفسك أن تسمّي هذا القائل كاذبا والكاذب ممقوت ، وقد أحسن هذا وأجاد ، أو تعتقد صدقه فتكون بمراحل عمّا أراد؟
وبالجملة ، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد
__________________
(١) وكقول الشاعر :
وقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى |
|
فقال نعم هذا أخي وشقيقي |
( مجد الدين )
(٢) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي ، راجع يتيمة الدهر ٤ : ٣٠٨.