فإن قيل : دلّوا على أنّ بنفس الاستعمال يعلم الحقيقة ، وهذا ينتقض بالمجاز لأنّهم قد استعملوه وليس بحقيقة ، إلى أن قال :
قلنا : أمّا الّذي يدلّ عليه فهو إنّ لغتهم إنّما تعرف باستعمالهم ، وكما إنّهم إذا استعملوا اللفظ في المعنى الواحد ولم يدلّونا على أنّهم متجوّزون قطعنا على أنّها حقيقة فيه ، فكذلك إذا استعملت في المعنيين المختلفين.
وتوضيح ذلك : إنّ الحقيقة هي الأصل في اللغة والمجاز طار عليها ، بدلالة أنّ اللفظ قد يكون لها حقيقة في اللغة ولا مجاز له ، ولا يمكن أن يكون مجاز إلاّ حقيقة له في اللغة ، فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون الحقيقة هي الّتي يقتضيها ظاهر الاستعمال ، وإنّما ينتقل في اللفظ المستعمل إلى أنّه مجاز بالدلالة ، وأمّا المجاز فلا يلزم على ما ذكرنا لأنّ استعمال اللفظ لو تجرّد عن توقيف أو دلالة على أنّ المراد به المجاز والاستعارة لقطعنا به على الحقيقة ، إلى آخر ما ذكره.
وأطنب فيه وبالغ به في ترويج ما اختاره ممّا لا يرجع إلى طائل ، ومحصّله يرجع إلى بناء أصالة الاستعمال ـ بالمعنى الّذي ذهب إليه ـ على أصالة الحقيقة بالمعنى المتقدّم إليه الإشارة ، المأخوذ في مباحث تعارض الأحوال ، مع كون المراد بالأصل ثمّة القاعدة المأخوذة عن جواز الحقيقة بلا مجاز وعدم جواز المجاز بلا حقيقة.
فأوّل ما يرد عليه : تطرّق المنع إلى تفسير الأصل المذكور بما ذكر ، فإنّه ليس من لوازم هذا الأصل ولا من ملزوماته ، ولذا صار المجاز بلا حقيقة مسألة خلافيّة ولهم فيها أقوال ثلاث ، مع اتّفاقهم على هذا الأصل في الجملة ، بل المراد به القاعدة المستفادة من حكمة الوضع بمعنى العلّة الباعثة على فتح باب اللغات ، المفسّرة بحصول التفهيم والتفهّم من غير حاجة إلى تجشّم القرائن ، وإنّما يكون المجاز مخالفا للأصل بهذا المعنى ، لأنّه حين الاستعمال إمّا أن يقترن بقرينة توجب انفهام المعنى المجازي أو لا ، فعلى الثاني يلزم مخالفة الجزء الأوّل من حكمة الوضع وعلى الأوّل يلزم مخالفة الجزء الثاني منها.