ولعلّه لذا أورد بعض الأجلّة على نسبة القول بالحقيقة الدينيّة إلى المعتزلة خاصّة ، مع تصريحهم بأنّها قسم من الحقيقة الشرعيّة ، بأنّه إنّما يستقيم لو كان دعوى المثبتين للحقيقة الشرعيّة راجعة إلى موجبة جزئيّة ، هي إنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة في الجملة وهو خلاف التحقيق ، فإنّ الظاهر كما ستعرف أنّ النزاع في الحقيقة يرجع إلى الإيجاب والسلب الكلّيين ، فالقائل بالحقيقة الشرعيّة قائل بالحقيقة الدينيّة والنافي للحقيقة الدينيّة ناف للحقيقة الشرعيّة ، فلا يكون النزاع في الحقيقة الدينيّة نزاعا آخر غير النزاع في الحقيقة الشرعيّة.
وظنّي أنّ هذا غفلة منه قدسسره عمّا نسب إليهم ، وجزم به من تصريحهم بأنّ الحقيقة الدينيّة أخصّ من الشرعيّة وقسم منها.
وهذا كما ترى كالصريح في كونه قرينة صارفة لعبارة الحاجبي عمّا هي ظاهرة فيه ، لقضائه بأنّ المعتزلة بعد إثباتهم الحقيقة الشرعيّة على وجه الإيجاب الكلّي وفاقا لغيرهم من مثبتيها على هذا الوجه ، تفرّدوا بإثبات الحقيقة الدينيّة أيضا ولم يبق له محلّ إلاّ إثباتها بحسب التسمية ، وبه يقيّد إطلاق عبارة الحاجبي ، فمخالفة غيرهم لهم إنّما هي في تسمية ما يسمّونه بذلك الاسم.
وظاهر أنّ إنكار التسمية لا يلازم إنكار المسمّى ، لثبوته عند غيرهم أيضا على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، إلاّ أنّهم لا يسمّونه بهذا الاسم.
وأيضا فإنّ في كلام غير واحد : إنّ ما ذكروه من الأنواع الأربع ، إنما هو مجرّد فرض وتجويز عقل ، وإلاّ فالموجود منها في الخارج ليس إلاّ أحد الأنواع ، وهو ما يعرف أهل اللغة لفظه دون معناه ، فلو أنّ الاختلاف المذكور كان معنويّا لكان معقد البحث في الحقيقة الشرعيّة الّذي هو مطرح أدلّة المثبتين والنافين مجرّد فرض لا خارج له فيما بين الألفاظ ، أو هو على تقدير وقوعه في غاية الندرة ، وفيه ما فيه.
وبما قرّرناه يعلم أنّه لا تدافع بين ما في بعض العبائر من التصريح بانحصار الحقيقة الشرعيّة فيما ذكر من النوع الواحد ، وبين ما اشتهر من قضيّة انقسامها إليه وإلى سائر الأنواع ، لاختلاف القضيّتين في الموضوع ، فإنّ النظر في التقسيم إلى مجرّد المفهوم الذهني ، وفي الحصر إلى المصداق الخارجي.