فلا جرم أنه لا بدّ من معرفة علم اللغة التي تبيت عليها الأحكام ، وبها ورد الخطاب من الملك العلّام ، وتتبّع ما هو المعروف في عرفهم وزمنهم عليهمالسلام ، فإنه مقدم على اللغة عند علمائنا الأعلام. ولا بدّ من معرفة القدر الضروري من علم العربية التي يتوقف عليها فهم الأحكام ما عدا ذلك من العلوم التي ذكروها ، فلا ضرورة تلجئ إليها وإن كانت مما لها مزيد دخل في الفهم والاستعداد ، إلّا إنها ليس مما يتوقف عليها أصل المقصود والمراد.
قال بعض المحدثين من متأخّري المتأخرين ـ ونعم ما قال ـ : (وأمّا الاصطلاحات المنطقية فليس إلى تعلمها مزيد حاجة ، ولذلك لم يذكرها القدماء ؛ وذلك لأن الفكر والاستدلال غريزيّان (١) للإنسان ، إذ لا شك أن كلّ مكلف عاقل له قوة فكرية يرتّب بها المعلمات ، وينتقل بها إلى المجهولات وإن لم يعلم كيفية الترتيب والانتقالات ، كما يشاهد في بدء الحال من الأطفال فكما أن صاحب الباصرة يدرك المحسوسات وإن لم يعلم كيفية الإحساس ، هل هو خروج الشعاع (٢) أو انطباع الصورة في الجليدية (٣) أو غير ذلك (٤)؟ كذلك صاحب القوة
__________________
(١) في «ح» : عزيزتان.
(٢) هي مقولة الرياضيين التي تقول : إن الإبصار يكون بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند العين وقاعدته عند المرئي. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ٨ : ١٧٩.
(٣) الجليديّة : رطوبة وسطية من رطوبات العين ، سميت كذلك لجمودها وصفائها ، وهي تشبه البرد والجمد. ويقول الطبيعيون : إن الإبصار يكون بانطباع شبح المرئي في جزء منها. الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ٨ : ١٧٨ ، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٨٦٦.
(٤) كالقول بأن الشعاع الذي في العين يكيّف الهواء بكيفيّته ، يصير الكل آلة في الإبصار. أو القول بأنه لا شعاع ولا انطباع وإنّما هو بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقليّة. وهو المنسوب للسهروردي. انظر الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة ٨ : ١٧٩.