(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) أي مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده زكريا حين دعا ربه دعاء خفيا مستورا عن أعين الناس.
وإنما أخفى دعاءه ، لأنه أدل على الإخلاص ، وأبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من لائمة الناس ، على طلب الولد وقت الكبر والشيخوخة.
وقصارى ذلك ـ إن فى هذه السورة ذكر الرحمة التي رحم الله بها عبده زكريا حين أسرّ بدعائه إليه.
ثم فصّل كيفية دعائه بقوله :
(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أورد زكريا عليه السلام قبل سؤاله أمورا ثلاثة ، كل منها يستحق الرحمة والشفقة :
(١) ضعفه ظاهرا وباطنا ، وأثر الأول قد ظهر فى العظام التي هى حاملة سائر الأعضاء ، ومتى وصل إليها الضعف كان ضعف ما عداها أولى وأجدر ، وأثر الثاني واضح باستيلاء الشيب على الرأس واضطرامه فى السواد كما قال ابن دريد :
إما ترى رأسى حاكى لونه |
|
طرّة صبح تحت أذيال الدجى |
واشتعل المبيضّ فى مسودّه |
|
مثل اشتعال النار فى جمر الغضا |
(٢) إنه ما ردّ دعاؤه ولا خاب استعطافه حينا من الدهر ، بل كان كلما دعا استجيب له ، وهو فى هذه الحال أجدر بالإجابة لضعفه وشيخوخته ، وفى هذا إشارة إلى لطف الله به ، وعظيم فضله عليه ، مدى حياته.
وقد روى التاريخ أن معن بن زائدة أتاه سائل فقال من أنت؟ قال أنا الذي أحسنت إليه حين كذا ، قال مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
(٣) إن فى إجابة الطلب منفعة دينية ، إذ أنه خاف أن الموالي أي الورثة الذين يخلفونه فى إقامة الشعائر الدينية ـ لا يؤدون ما يجب عليهم نحو الدين من نشره وتبليغه الناس وعبادة الله كما أمر ، والذبّ عنه إذا جد الجدّ ، ووجب الدفاع عنه ، فقد أثر عنهم