المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأمور التي رآها موسى عليه السلام حين صاحب الخضر ، وذكر ما كان من اعتراض موسى عليه مرة بعد أخرى ، وقد كان أعلمه من قبل أنه لا يستطيع معه صبرا ، وكان من جراء ذلك أنه فارقه ولم يستطع صحبته ـ أردف ذلك بتفسير ما أشكل عليه أمره ، مما ينكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضر على حكمة باطنة ، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم يحكمون بناء على الظواهر كما قال النبي صلّى الله عليه وسلم «نحن نحكم بالظواهر ، والله يتولى السرائر».
وأحكام هذا العالم مبنية على الأسباب الحقيقة الواقعة فى نفس الأمر ، وهذه لا يطلع الله عليها إلا بعض خواص عباده ، ومن ثمّ اعترض موسى على ما رأى ولم يعلم ما آتاه الله الخضر من قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ، ويطلع على حقائق الأشياء ، فكانت مرتبة موسى فى معرفة الشرائع والأحكام بناء على الظواهر ، ومرتبة هذا العالم الوقوف على بواطن الأمور وحقائق الأشياء ، والاطلاع على أسرارها الكامنة.
وخلاصة المسائل الثلاث ـ إنه حين يتعارض ضرران يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى ، فلو لم يغب تلك السفينة بالتخريق لغصبها الملك وفاتت منافعها بتاتا ، ولو لم يقتل ذلك الغلام لكان بقاؤه مفسدة لوالديه فى دينهم ودنياهم ، ولأن المشقة الحاصلة بإقامة الجدار أقل ضررا من سقوطه ، إذ بالسقوط كان يضيع مال أولئك الأيتام.
ومجمل الأمر فى ذلك ـ إن الله أطلع الخضر على بواطن الأشياء وحقائقها فى أنفسها ، وهذا لا يمكن تعلمه إلا بتصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسمية ، ومن ثمّ قال فى صفة علمه : «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وموسى عليه السلام لما كملت مرتبته فى علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ، ليعلمه أن كمال المعرفة فى أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على معرفة حقائق الأشياء على ما هى عليها فى الواقع