ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه لأن نزول القرآن بلغة العرب ، لا يقتضي أن العرب كلهم يفهمونه في مفرداته وتراكيبه ، وإنما كانوا يختلفون في مقدار فهمه حسب رقيهم العقلي ، بل إن ألفاظ القرآن نفسها لم يكن العرب كلهم يفهمون معناها ، كما لم يدع أحد أن كل فرد في كل أمة يعرف ألفاظ لغتها (١). وليس أدلّ على ذلك ، مما يروى عن أنس بن مالك ، أن رجلا سأل الفاروق عمر عن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٢) ، ما الأب؟ فقال عمر : نهينا عن التكلف والتعمق» ، وروي عن عمر أيضا ، أنه كان على المنبر ، فقرأ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (٣) ، ثم سأل عن معنى «التخوف» ، فقال رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص (٤).
وقريب من هذا ، ما روي عن ابن عباس (٣ ق. ه ـ ٦٨ ه) أنه قال : ما كنت لأدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أحتكم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأت حفرها (٥).
فإذا كان هذا شأن الفاروق ، يلتبس عليه معنى «التخوف» إلى أن يفسره له شيخ من هذيل ، لأن التخوف من لغة هذيل ، وإذا كان هذا شأن ابن عباس ـ وهو حبر الأمة ، وترجمان القرآن ، ومن دعا له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ومن كان عنده أدق الفهم لإشارات القرآن ودقائق معانيه (٦) ـ لا يدري معنى فاطر السموات
__________________
(١) احمد امين : فجر الاسلام ص ١٩٦
(٢) سورة عيسى : آية ٣١
(٣) سورة النحل : آية ٤٧
(٤) الموافقات ٢ / ٥٧ ـ ٥٨ ، فجر الاسلام ص ١٩٦
(٥) مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، تفسير الطبري ١٤ / ٧٧
(٦) الاتقان ٢ / ١٧٩ ، ١٨٧ ، تفسير القرطبي ١ / ٣٣ ، فتاوى ابن تيمية ٤ / ٩٣ ، ٩٤ ، ١٣ / ٣٦٥ ، ١٧ / ٤٠٢ ، تفسير الطبري ١ / ٩٠ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٥٧ ـ ٥٨ ، ٢٦٤