وهكذا يبدو وبوضوح ، أن كل هذه المحاولات : السياسية والعسكرية ـ تثبت قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان في الجنوب والشمال ، وفي كل المحاولات استطاعت الكعبة أن تحفظ مكانها ، على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها ، بل إنها إنما استطاعت ذلك لخلوها من العروش وقيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص ، وعلى تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم ، ومعبوداتهم ، دون أن يسخرهم المسخرون ، أو يستبد بهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة وبذل الإتاوة (١).
وهكذا كان المكيون يشعرون بمكانة الكعبة عند العرب عامة ، ومن ثم فقد كانوا يرون لأنفسهم ميزة لا يتطاول إليها غيرهم من العرب ، لأنها تتصل بكرامة البيت الحرام وحرمته ، فهم أهله وأولياؤه ، وهم سدنته والقائمون بالأمر فيه ، يسقون الحجيج ويطعمونهم ، ويوفرون لهم الأمن والراحة ، ومن ثم فقد نشأ عندهم ما يسمى بنظام «الحمس» ، ويعنون به ابن البلد وابن الحرم والوطني المقيم ، والذي ينتمي إلى الكعبة والمقام ، فهو امتياز لأبناء الوطن وأهل الحرمة وولاة البيت قطان مكة وساكنيها (٢) ، ولهذا فقد نادوا بين الناس : «نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت وقاطنو مكة وساكنوها فليس لأحد من العرب مثل حقنا ، ولا تعرف له العرب ما تعرف لنا» (٣).
وكان الحمس إذا زوجوا امرأة منهم لغريب عنهم ، اشترطوا أن يكون أبناؤها منهم ، ثم جعلوا لأنفسهم علامة ، وهي ألا يعظم الأحمس شيئا
__________________
(١) العقاد : مطلع النور ص ١١٥.
(٢) الخربوطلي : المرجع السابق ص ٥٠ ، قارن : شفاء الغرام ٢ / ٤٣ ، ابن هشام ١ / ١٩٩
(٣) الأزرقي ١ / ١٧٦ ، ابن هشام ١ / ٢١٦ ، تفسير الطبري ٤ / ١٨٨