تكون حقيقة وقعت ، وقد تكون أسطورة وضعت ، فإنه لا يعلم الحقيقة إلا الله ، ومع ذلك ، فلو صدقنا جدلا أنها قد حدثت فعلا ، فهي إنما تمثل احتجاج رجل ـ أو جماعة من العرب ـ على سياسة أبرهة نحو الكعبة ، ورغبته في صرف حاج العرب عنها ، ولكنها لن تكون سببا كافيا لقيام حملة تضم آلافا مؤلفة من جنود الحبشة ، فضلا عن الذين اشتركوا فيها من قبائل اليمن ، وبقيادة أبرهة نفسه. وهو الذي يملك الكثير من الوسائل الأخرى لتأديب هذا الرجل ، أو تلك الجماعة ، على تدنيسهم لكنيسته.
وأما رواية السيوطي ، فظاهرها المنطق ، وباطنها كثير من الخيال ، فأكسوم بن الصباح ـ حفيد أبرهة ـ رجل نصراني ، وما كانت النصارى تحج إلى مكة ، وما كان حفيد أبرهة بالذات هو الذي يحج إلى كعبة قريش ، لأنها كانت محجة الوثنيين وقت ذاك ، ولأن جده أبرهة هو الذي كان يعمل جاهدا على صرف العرب عنها وتحويلهم إلى القليس ، وليس من المنطق ، فضلا عن حقائق التاريخ ، إن يكون أول الخارجين على سياسة أبرهة ، حفيده يكسوم هذا ، وإلا لما غضب أبرهة من أجل سرقة قناعة ، فضلا عن حلى كنيسة نجران ، ثم إن السيوطي إنما يخالف الإجماع فيما ذهب اليه من أن الذي كان على رأس الجيش ، إنما هو «شهر بن معقود» وليس أبرهة نفسه ، كما انه يسبغ على قائد الحملة لقب «ملك» ، وقد كان ذلك لقب أبرهة ، ولم يكن «شهر» هذا ممن يحملون هذا اللقب الرفيع (١).
وأما رواية القرطبي ، فالجديد فيها أن سبب الحملة ، إنما كان أحراق بيعة ، وليس تدنيس القليس ، وأنها في الحبشة ، وليست في اليمن ، وأن الذي أمر بها إنما كان النجاشي ، وليس أبرهة ، الذي لم يتجاوز دوره فيها
__________________
(١) جواد علي ٣ / ٥١١