الكذوب ، وإنما جهدوا ـ قدر طاقتهم ـ لإثباتها ، وهم أول من يعلم أن التوراة ـ أو العهد القديم ـ غير موثوقة السند ، وراح بعضهم يتطاول على المقام السامي ، دونما أي حذر أو حيطة ، إثباتا لصحة نصوص التوراة ، فيما يزعمون (١) ، وكأن التوراة لا تكون كتابا مقدسا ، إلا اذا صورت المصطفين الأخيار ، من أنبياء الله الكرام في صورة مشوهة (٢).
ويقدم لنا القرآن الكريم ـ بعكس التوراة تماما ـ خليل الرحمن ، وهو يترك موطنه الأصلي في حاران (٣) ، مبشرا بدعوة التوحيد ، في مكان غير هذه الأرض ، التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن ، وتقص علينا الآيات الكريمة من سورة مريم ، كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه ، يهديه بها صراطا مستقيما ، غير أن أباه قد رفض الدعوة ، بل وهدده إن لم ينته عنها ، ليرجمنه وليهجرنه مليا ، فما كان من الخليل ، تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وأن ينتظر إجابة دعوته إلى حين ، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
__________________
(١) ف. ب. ماير : حياة إبراهيم ص ٦٥ ، ٢٢١ ، حبيب سعيد : خليل الله في اليهودية والمسيحية والاسلام ص ٤٧ ، القس منيس عبد النور : إبراهيم السائح الروحي ص ٢٦
(٢) انظر رحله في كتابنا اسرائيل ص ٦٩ ـ ٨٦
(٣) انظر وجهات نظر مختلفة عن موطن الخليل وهجراته ، في كتابنا «اسرائيل» ص ١٦٥ ـ ١٩٦