أمّا إذا أخذنا الشهادة بمعنى الشهادة العملية ، يعنى أن تكون أعمال «فرد نموذجي» مقياسا ومعيارا لأعمال الآخرين كان التّفسير حينئذ خاليا عن أي إشكال ، لأنّ كل نبيّ بما له من صفات متميزة وخصال ممتازة يعدّ خير معيار لأمّته ، إذ يمكن معرفة الصالحين والطالحين بمشابهتهم أو عدم مشابهتهم له ، وحيث إن النّبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم هو أعظم الأنبياء والرسل الإلهيين كانت صفاته وأعماله معيارا لشخصية كل الأنبياء والرسل.
نعم لا يبقى هنا إلّا سؤال واحد هو : هل جاءت الشهادة بهذا المعنى ، أم لا؟بيد أنّه مع الانتباه إلى أنّ أعمال الرجال النموذجيين وتصرفاتهم وأفكارهم تشهد عمليا على أنّه من الممكن أن يرقى إنسان ما إلى هذه الدرجة ، ويطوي هذه المقامات والمراحل المعنوية لم يبد مثل هذا المعنى بعيدا في النظر.
عندئذ يندم الكفار الذين عارضوا الرّسول وعصوه ، أي عند ما رأوا بأمّ أعينهم تلك المحكمة الإلهية العادلة ، وواجهوا الشهود الذين لا يمكن إنكار شهاداتهم ، إنهم يندمون ندما بالغا لدرجة أنّهم يتمنون لو أنّهم كانوا ترابا أو سووا بالأرض كما يقول القرآن الكريم في الآية الثانية من الآيتين الحاضرتين إذ يقول سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ).
وقد ورد مثل هذا التعبير في آخر سورة النبأ إذ يقول تعالى : (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً).
ولكن لفظة (لَوْ تُسَوَّى) تشير إلى مطلب آخر أيضا ، وهو : إنّ الكفار مضافا إلى أنّهم يتمنون أن يصيروا ترابا ، يحبّون أن تضيع معالم قبورهم في الأرض أيضا وتسوى بالأرض حتى ينسوا بالمرّة ، ولا يبقى لهم ذكر ولا خبر ولا أثر.
إنّهم في هذه الحالة لا يمكنهم أن ينكروا أية حقيقة واقعة ولا أن يكتموا شيئا : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) لأنّه لا سبيل إلى الإنكار أو الكتمان مع كل تلكم الشهود.