عرف ذلك فإن كل عسير عليه يهون ؛ والراحة موصولة بالعناء ، والبقاء مقرون بالفناء ؛ والملك سبب للعزل ، والجد موجب للهزل ؛ فرحم الله امرءا نظر لغده ، وما جر المهالك إلى نفسه بيده ؛ ونظر إلى الدنيا شزرا ، وعلم أن مع مدّها جزرا ، والسلام.
وذهب يوما إلى ديوان عميد الملك سيد الوزراء أبي نصر الكندريّ (١) ـ وكان المجلس غاصا بكبار الشخصيات ـ ، فأشار بيده إلى عميد الملك ، وبدأ بتلاوة هذه الآية (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ و (٢) تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ ، وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ)(٣) ، فاغرورقت أعين جميع الحاضرين فجأة بالدموع ونالوا نصيبهم من تلك الموعظة ، وكلما أراد عميد الملك أن يخلع عليه رفض قائلا : إنني أريد إنعاما عاما ، وهو العدل ، وليس الإنعام الخاص ، لأن الإنعام الخاص لا يثمر شيئا في أيام [١١١] الظلم والجور ، بينما كان الإنعام العام سبب عمارة العالم ، فقال عميد الملك : إنه لمن المؤسف ، إن يقيم من هو مثلك في الرستاق (٤) ، فقال : أيها الوزير : إن الطريق من كل البقاع والمواطن إلى عرصات القيامة واحدة ، وليس هناك طريق أبعد أو أقرب من غيره ، فبكى عميد الملك طويلا وأمر أن يغلق الديوان إلى آخر ذلك اليوم.
فلما أراد جدي الانصراف قال : أيها الوزير! لا تغفل عن تلك النار ذات اللهب المتصاعد ، ولا تجعل حطام دنياك وقودا لنار جهنم ، واعلم أن لنفسك عليك حقا ، وحقها أن تعتقها من عذاب الله تعالى بما أعطاك الله.
وقد كتب الوزير أبو العلاء محمد بن علي بن حسول (٥) ـ الذي كان وزيرا لمجد
__________________
(١) الوزير السّلجوقيّ أبو نصر محمد بن منصور المقتول سنة ٤٥٦ ه وقد ذكر المؤلف هذه الواقعة بشكل واف في غرر الأمثال (٣٥٣ أ ـ ٣٥٣ ب).
(٢) سورة إبراهيم ، الآية ٤٥.
(٣) الرستاق : معرب روستا الفارسيّة وتعني القرية.
(٤) الكاتب الهمذاني المتوفى سنة ٤٥٠ ه (مجمل فصيحي ، ٢ / ١٧٤ ؛ الأعلام ، ٦ / ٢٧٦).