ثم أخذنا في أهبة الترحال ، ورحلنا منه بعد الزوال ، وسرنا في فياف كثيرة التراب والعجاج ، واسعة الشعوب والفجاج ، شديدة الحرّ والسموم ، (ماؤها بعد قوة محموم ، ونسيمها بعد تنفسه مزكوم ، وسحاب وخير مركوم ، وثوب حميمه مرقوم) (١). ثم انتهينا إلى تلال وأوعار ، وأشجار من شجر البادية صغار وكبار ، إلى أن أشرفنا على بحرة أزنيق ، ذات المنظر الأنيق ، والوجه الشريق ، وهبّ نسيم الروح منبعثا بما به الروح تحيا بعد موت وتبعث ، وعاد إلى الأجسام [١٥٧ ب] رونق حسنها وكادت به تفنى حقيقا وتجدث. (ثم مسينا ساحلها على بساط أخضر ، وأديم أنضر) (٢) ثم لم نزل في طريقنا ذلك نتجوّل على تلك المنازل ، ونتحوّل في هاتيك الخمائل. ودخلنا البلدة والشمس مرضى أصائلها ، والربى معصفرة وصائلها ، ونزلنا بها بعمارة منسوبة للوزير الأعظم الهمام إبراهيم باشا والد عيسى باشا نائب الشّام ، وبتنا بها ليلة الاثنين سادس عشرين شوال ، ونحن في أحسن حال وأيسر بال.
ثم رحلنا عندما اكتهل من الليل الشباب (٣) ، وشمّر ذيله للهرب والذهاب ، وأقبلت تباشير الصباح تترى ، وأخفى الأفق زهرا وأظهر رهزا ، وسرنا ساعة بجانب شاطيء (٤) بركتها ، ثم ارتقينا على كاهل عقبتها ، ثم أظلم الجوّ ، وتراكم النو ، وارتفع الصحو ، وتبدّل بالكدر الصفو ، وهما الغمام ، وأرسلت شآبيب الأمطار كالسهام ، وغلب اليأس على الأمل ، [١٥٨ أ] وقلت : أنا الغريق فما خوفي من البلل ، ولم نزل في صعود وهبوط ، ورجاء وقنوط ، وبسط وقبض ، ورفع وخفض ، لا نرى مفعولا إلّا للفاعل المختار ، ولا نشهد موصولا إلّا وقد انفصل عن صلته وعوائده بلا اختيار ، والحال عن المكاره لا تتميّز ، وقد أحوج ابتداء السير فيها إلى خير انقضائه وأعوز ، فلا ترى إلّا التعجب من هذا النعت ، والتقلّب بين العوج والأمت (٥) ، والأكف مرتفعة
__________________
(١) ما بين القوسين ساقط من (ع).
(٢) ما بين القوسين ساقط من (ع) وفي (م) علاه التشطيب.
(٣) وردت في (ع): «أسباب».
(٤) ساقطة من (ع).
(٥) الأمت : الارتفاع.