منه عندما نصل خضاب الليل ، وشمّر [٥٣ ب] زنجيه (١) للهرب من رومي الصباح الذيل ، ولمع صارم الفجر من الشرق كلمعان البرق ، وسرنا في دروب محجرة ، ودربندات مضجرة ، وشعراء بالخوف مشعرة ، وأرض خالية من الأنيس مقفرة ، ومسالك عسرة وعرة ، إلى عقبة ينخفض عنها طرف العقاب ، ويعسكر دونها جيش السحاب ، بها أشجار لا تعدّ ولا تحصى ، ولا يدرك الأدنى منها والأقصى ، فلم نزل نجوب كل مسلك وطريق ، تارة في السعة وتارة في الضيق ، إلى أن وصلنا وقت الضحى الأنيق ، عند تعالى وجه الشمس الشريق ، من يوم الأربعاء إلى مدينة أزنيق (٢) ، وهي مدينة عظيمة (٣) المنظر حسنة المخبر ، ممتعة بالروض الناعم والنسيم الأعطر ، من أحسن البلاد الرّوميّة أزقة وأسواقا ، وأكثرها فوائد وأرزاقا ، وأوضحها بياضا وإشراقا ، وأبدعها اتصالا بالبساتين والتصاقا ، وأملحها مرسى (٤) ، وأمنحها أنسا ، وأينعها روضا ، وأترعها [٥٤ أ] حوضا ، معتدلة الهواء ، سامية البناء ، واسعة الفناء ، ساكنة المساكن ، مكينة الأماكن ، لائحة المباهج ، واضحة المناهج ، صافية الزلال ، ضافية الظلال ، معشبة الشعاب ، عامرة الجناب ، مرنة الرباب ، هامرة السحاب ، سابغة المدارع ، سائغة المشارع ، سافرة المطالع ، وافرة الصنائع ، وهي مخصوصة بعمل الصيني الرّوميّ (٥) وبه تعرف ، وهو ألطف من معمول الصّين وأظرف ، وبها فاكهة كثيرة حسنة ، وقد رأينا بها قراصيا ملوّنة ما بين بيضاء وشقراء
__________________
(١) وردت في (م): «رنجيّه».
(٢) أزنيق : مدينة في بلاد الرّوم قرب شواطىء بحر مرمرة الشرقية ، وهي مدينة أثرية ، وكان اسمها في القديم «نيقية» ، فتحها السّلطان أورخان سنة ٧٣١ ه. وبينها وبين القسطنطينيّة أربع مراحل (٩٠ كم) ، وقد مرّ بها الرحالة كبريت ، قال : «وإليها ينسب الفخار الأزنيقيّ لأنّ بها مصانعه وأحجاره» ، كما أفاض في الحديث عنها الرحالة الخياري ، انظر : رحلة الشتاء والصيف ١٨٩ ، ورحلة الخياري ١ : ٢٣٥ وأخبار الدول ٣ : ٣٠٦ ، وبلدان الخلافة الشرقية ١٨٢.
(٣) وردت في (م): «غضّة».
(٤) وردت في (ع): «رسى».
(٥) هو الفخار الأزنيقيّ ويعرف أيضا بالقاشانيّ.