فلم نزل نغوص في عبابه ، ونرقى على ثبجه رقى حبابه ، ونخلط بدكّ الحوافر جنادله بترابه ، هذا وحكم الحرّ لم ينسخ ، وإهابه لم يسلخ ، والريح تهب سموما ، وتهدي إلى القلوب سموما (١) ، والغبار متراكم متراكب ، تكاد أن لا تبين معه الشمس فكيف الكواكب ، مع أن الشمس ليس لها في ذلك المحل مواكب ، ولا محامل (٢) ولا مراكب ، ولا تبلغ من تلك الأشجار إلّا رؤوس المناكب ، ولا تنسج عليها إلّا كنسيج العناكب ، فما قطعناه إلّا بعد جهد جهيد ، وتعب شديد ، وعناء ما عليه من مزيد ، ثم لم نزل نقطع مسالك ضيّقة ومتسعة ، ومناهج منخفضة ومرتفعة ، نصعد على التهائم ونغور في النجود ، ونسلك كل مسلك لم يكن بالمعمور ولا بالمعهود ، ولا كان مسلكا إلّا للذئاب واللصوص والأسود ، إلى أن وصلنا ضحوة يوم الجمعة المشهود ، إلى بلدة أزنكميد (٣) ويقال لها [٥٦ أ] أزنكمود ، ثم نزلنا خارجها بنحو نصف ميل لكي نستريح ونقيل ، ونخفف عنّا (٤) ذلك العبء الثقيل ، بمكان خضر الأرجاء والنواحي ، بهج المرابع والضواحي ، وفيه ماء جار ، وأشجار جوز كبار ، فقوي فيه الحرّ واشتد ، واحتدم واحتدّ ، واعتدى واعتدّ ، وتمادى وامتدّ ، وتنفست في ذلك المكان الجحيم ، وصار الماء أبرد منه ماء الحمام كأنما سيق من الحميم.
فبينما الناس في التهاف والتهاب ، واضطرام واضطراب ، وغرق من العرق ، وحرق من الحرق ، وقد تستروا بظل فروع الأشجار والورق ، واتخذوا أغصانها من سهام الشمس درق ، وإذا بالحمزاويّ قد عزم على الرحيل والمسير ، فضجّ من ذلك الصغير والكبير ، واستنجد بي بعضهم في التواني قليلا والتأخير ، لتنكسر سورة ذلك السعير ، وكنت قد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المنام قبل ذلك الوقت بيسير ، فقلت
__________________
(١) وردت في (ع): «سموها».
(٢) وردت في (م): «مطايا».
(٣) أزنكميد وأزنكمود : وهو اسم تركي ، وبالعربيّة نقمودية ، وتسمى حاليا أزميد. وهي مدينة على ساحل البحر بينها وبين القسطنطينيّة أربع مراحل ، فتحها الملك أورخان ابن السّلطان عثمان ، انظر : أخبار الدول للقرماني ٣ : ٣٠٧ ، وبلدان الخلافة الشرقية ١٩٠.
(٤) سقطت هذه الكلمة من (ع) ، وفي (م): «ونخفف عنّا بعض ...».