الأسباب والأمتعة والجماعة [١٢٩ أ] على أنّنا نبكر لهم صباحا ، ونركب معهم غدوا ورواحا ، فأمطرت السماء تلك الليلة مطرا غزيرا ، صار منه الوادي غديرا ، واستمر يوم الأربعاء ثم ليلة الخميس معا ، ثم أسفر وجه الخميس ووجه الجوّ في غاية التعبيس ، وعيون المزن ذارفة ، وسقف الأفق واكفة ، والقلوب من ذلك راجفة واجفة ، الى أن تعالى النهار ، وكاد جرف الصبر ينهار ، فكف حينئذ الوبل ، وتنازل الى مرتبة الطل ، والشّمس من خلل السحاب تظهر كالحسناء في النقاب أو مثل عذراء تبرز وتستتر بالخباء ، أو كما قال الشريف ابن طباطبا : [من الوافر]
متى أبصرت شمسا تحت غيم |
|
ترى المرآة في كفّ الحسود |
يقابلها فيكسبها غشاء |
|
بأنفاس تزايد في الصّعود (١) |
فعزمنا على الرحيل ، والتجوّل في برد الأصيل ، وخرجنا وقت العصر من تلك المدينة ، قاصدين في زعمنا الركوب في السفينة ، وذلك يوم ثامن عشرين صفر ختم بالخير والظفر ، وأخذنا في السير والترحال ، والقلب في غاية الأوجال من تلك الأوحال والأحوال ، فلمّا وصلنا إلى قرب [١٢٩ ب] الساحل التي السفينة به ، تلقّونا الجماعة (٢) ، ومالوا بنا إلى قرية هناك بقربه يقال لها ينكيجه باللغة الرّوميّة ، ومعناه الجديّدة بالتصغير في اللغة العربيّة ، وقالوا لنا : استريحوا هنا في هذا المكان ، وعرّفنا الجماعة أنّه كذب في قوله ومان ، فنزلنا هناك ببيت عال من الدفوف ، متخرّق الحيطان والسقوف ، تتناوح به رياح الجنوب والشمال ، من العلو والسفل واليمين والشمال ، فلم نزل بذلك المكان ثلاثة عشر يوما ، لا نجد بالنهار راحة ولا نذوق بالليل نوما ، ونحن في أسوء الأحوال ، وأشدّ الأوجال ، من تلك الأمطار والأوحال ، وقد اشتد البرد ، وبلغ الجدّ وفرغ الجهد ، ووقع الثلج على الجبال حوالينا ، ووصلت
__________________
(١) البيتان في محاضرات الأدباء ٢ : ٥٣٨ ، ومعاهد التنصيص ٢ : ١٠٤.
(٢) وردت في (ع): «تلقانا ماميه والجماعة».