يعيش (رأس مدلج) (١) لا عدانا برّه وخيره ، يحلل لنا هذا وغيره ، فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم ، ثم سرنا فلما تكامل من النهار شبابه ، واستنار وجهه وصفى إهابه ، أفضى بنا إلى خان شيخون (٢) المسير ، وهو مكان موحش معطش ، يسقى فيه من بئر على بعير ، فلمّا انهار ذلك النهار ، ومال الظل وامتد ، وحمى الحرّ واشتد ، واحتدم حموه واحتد ، أخذنا في أهبة الترحال ، وشددنا الأحمال على البغال ، ولم نزل نسير في تلك الفيافي (٣) وهجيرها يلفح ، وزفيرها لا يكف عنّا ولا يصفح ، إلى أن حان وقت المغيربان ، واختفت الشمس عن العيان ، [٢١ ب] فوصلنا إلى معرّة النّعمان ، وذلك في ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان ، فنزلنا بها بمكان مخوف كثير السّراق والذؤبان ، وبتنا بها وقلوبنا تخفق فرقا وتطير وجلا ، وإن رأينا غير شيء ظنناه رجلا.
وقد كانت المعرّة مدينة كبيرة وانتشأ بها (٤) من العلماء جماعة كثيرة ، وناهيك بأبي العلاء رأس النبلاء وعين الفضلاء ، وزين الأدباء ، وفخر الشعراء ، والشيخ العلّامة الفهامة زين الدّين بن الورديّ ، أفقه الشعراء ، وأشعر الفقهاء ، وأنبه الظرفاء ، وأظرف النبهاء ، وكفاه برهانا على كماله وحجة نظمه الحاوي المسمّى بالبهجة ، وغيرهم من الأفاضل والأعيان الأماثل ، وأما الآن فقد تعوضت من ذوي العلم بذوي الظلم ، ومن أهل الفضل بأهل الجهل ، ومن الأماثل بالأراذل ، ومن الفقهاء بالسفهاء ، ومن الحداق بالسرّاق ، ومن أهل الأداب بالذئاب في الثياب ، وعامة أهلها الآن لصوص ، إلّا ما أخرجه من التعميم الخصوص ، فأقمنا بها سواد الليل ثم رحّلنا البغال والخيل [٢٢ أ] ورحلنا منها عند ظهور نجم الصبح الثاقب. وحدور ضده المراقب ،
__________________
(١) ما بين القوسين ترك بياضا في (ع).
(٢) وردت في (ع): «سيحون». ومرّ بخان شيخون الرحالة كبريت في طريق عودته من الأستانة قال : «فأتينا على خان الشيخون ، وهو في واد مخضلّ وحوله ضيعتان بعيدتان عنه» انظر : رحلة الشتاء والصيف ٢٠٥.
(٣) وردت في (ع): «الضيافي».
(٤) وردت في (ع): «وانتسابها».