أمّا البداء الذي تقول به الشيعة والذي هو من أسرار آل محمّد وغامض علومهم حتّى ورد في أخبارهم الشريفة أنّه «ما عبد الله بشيء مثل القول بالبداء» وأنّه «ما عرف الله حقّ معرفته من لم يعرفه بالبداء» إلى كثير من أمثال ذلك ، فهو عبارة عن إظهار الله جلّ شأنه أمرا يرسم في ألواح المحو والإثبات ، وربّما يطّلع عليه بعض الملائكة المقرّبين أو أحد الأنبياء والمرسلين فيخبر الملك به النبيّ والنبيّ يخبر به أمّته ثمّ لم يقع بعد ذلك خلافه لأنّه جلّ شأنه محاه وأوجد في الخارج غيره ، وكلّ ذلك كان جلّت عظمته يعلمه حقّ العلم ، ولكن في علمه المخزون المصون الذي لم يطّلع عليه ؛ لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، ولا وليّ ممتحن ، وهذا المقام من العلم هو المعبّر عنه في القرآن الكريم بأمّ الكتاب المشار إليه ، وإلى المقام الأوّل بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١). ولا يتوهّم الضعيف أنّ هذا الإخفاء والإبداء يكون من قبيل الإغراء بالجهل وبيان خلاف الواقع ، فإنّ في ذلك حكما ومصالحا تقصر عنها العقول ، وتقف عندها الألباب.
وبالجملة فالبداء في عالم التكوين كالنسخ في عالم التشريع ، فكما أنّ النسخ وتبديله بحكم آخر مصالح وأسرار بعضها غامض وبعضها ظاهر فكذلك في الإخفاء والإبداء في عالم التكوين على أنّ قسما من البداء يكون من اطّلاع النفوس المتّصلة بالملأ الأعلى على شيء وعدم اطّلاعها على شرطه أو مانعه ، مثلا اطّلع عيسى عليهالسلام أنّ العريس يموت ليلة زفافه ولكن لم يطّلع على أنّ ذلك مشروط بعدم صدقة أهله فاتفق أنّ أمّه تصدّقت عنه ، وكان عيسى عليهالسلام أخبر بموته ليلة عرسه فلم يمت ، وسئل عن ذلك فقال : لعلّكم تصدّقتم عنه ، والصدقة قد تدفع البلاء المبرم ، وهكذا نظائرها.
__________________
(١) الرعد : ٣٩.