عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ، ولا تقول عميت على كذا؟ وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنيا للمفعول ، أي أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل. وقرأ أبيّ ، وعليّ ، والسلميّ ، والحسن ، والأعمش : فعماها عليكم. وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة. قال الزمخشري : (فإن قلت) : فما حقيقته؟ (قلت) : حفيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. (فإن قلت) : فما معنى قراءة أبيّ؟ (قلت) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين انتهى. وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة ، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على (أَرَأَيْتُمْ) (١) مشبعا ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب ، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول : أرأيتك زيدا ما صنع ، وليس استفهاما حقيقيا عن الجملة. وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله : (أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) (٢) أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله. أرأيتكم يطلبه منصوبا ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعا ، فأعمل الثاني. وهذا البحث يتقرر هنا أيضا ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافا لمن أجاز الاتصال. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه. فسيكفيكهم الله ، ويجوز فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل. قال : وتختار اتصال نحوهاء أعطيتكه. وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه. قال تعالى : أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا ،
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٦.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٤٠.