قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من دينك (فَنَبَذْتُها) أي طرحتها. فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير ، وتسميته رسولا مع جحده وكفره ، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١) فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل : وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلّا أن فيه مخالفة المفسرين. قيل : ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهودا باسم رسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر ، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل ، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جدا ، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحما ودما؟ وكيف عرف جبريل يتردّد إلى نبيّ وقد عرف نبوّته وصحت عنده فحاول الإضلال؟ ويكف اطلع كافر على تراب هذا شأنه؟ فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات ، فيصير ذلك قادحا فيما أتوا به من الخوارق انتهى. ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني.
(وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولا وإربا حتى فعلته ، وكان موسى عليهالسلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي ، فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يواكلوا ولا يناكحوا ، وجعل له أن يقول مدة حياته (لا مِساسَ) أي لا مماسّة ولا إذاية. وقال الزمخشري : عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش ، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا ، وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا ، وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حمّ الماسّ والممسوس فتحامى الناس وتحاموه ، وكان يصيح (لا مِساسَ) ويقال إن قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم انتهى. وكون الحمى تأخذ الماس والممسوس قول قتادة والأمر بالذهاب حقيقة ، ودخلت الفاء للتعقيب إثر المحاورة وطرده بلا مهلة زمانية ، وعبر بالمماسة عن المخالطة لأنها أدنى أسباب المخالطة فنبه بالأدنى على الأعلى ، والمعنى لا مخالطة بينك وبين الناس فنفر من الناس ولزم البرية وهجر البرية وبقي مع الوحوش إلى أن استوحش وصار إذا رأى أحدا
__________________
(١) سورة الحجر : ١٥ / ٦.