فلما تمّ حملها ولدت بنتا ، ولا شيء أبغض إليه من البنات إذ له سبعون بنتا ، فلما ولدتها أرسلت إليه : أيّها الملك افتح بيوت الأموال وصدّق وهب وأعط ، وادع الأمراء والقواد ؛ فلمّا وصلت إليه الرسالة لم يملك نفسه من الغضب أن صار إليها فقال : ما هذه؟ أنا لم يجئني ابن قطّ ، فلما جاءني وسررت به ذبحته وحرمتني إياه ، فلما جاءتني ابنة وأنا لها كاره أمرتني بالفرح والسرور وهو عندي حزن ؛ فما الذي دعاك إلى ذبح ابني ومهجة قلبي؟! فلمّا قال لها ذلك أسبلت عينها بالدموع والبكاء ، ولطمت وجهها وهتكت ثيابها وحلقت شعرها وقالت : أيها الملك طلقتني بعد صحبة خمس سنين ، وما أحببت شيئا قطّ حبّي إيّاك ، فكان هذا جزائي منك أو أملي فيك! ثم قالت : أيها الملك ، اعلم أني ذبحت ابني ومهجة قلبي في هواك ومحبتك ، وذلك أنّ والدي الذي رأيته ممّن يسترق السمع من السماء ، فلما ولدت الابن عرج أبي إلى السماء فسمع الملائكة يقولون : إنّ الله قد قضى على ابنك أنّه إن عاش حتى يبلغ الحلم يذبحك على فراشك ، فمن شدّة حبّي لك آثرتك على ابني ورأيت أن أذبحه صغيرا ولا يكبر ، فيدخل قلبي من محبته ما أعاونه عليك ، ولقد وجدت عليه مثلما تجد الوالدة على ولدها ، إلّا أني رأيت أنها نار أطفئت ، كل ذلك محبة للملك ، وأما الثياب والسروج التي حرقتها والطعام الذي أهرقته فإنّ لي ابن عمّ كان مسمّى علي ، فلمّا صرت إليك حسدني وعاداني ، فلمّا ولدت الابن جاء ابن عمّي فسمّ الطعام والثياب والسروج ليهلك الملك ورجاله ؛ فلذلك فعلت الذي فعلت ، فلما ولدت هذه الابنة صعد أبي إلى السماء فاسترق السمع فسمع الملائكة يتحدّثون أنّ هذه البنت أبرك بنت ولدت على وجه الأرض ، وأشرفه وأجلّه ، وإنها وارثة ملكك بعد أن يغصبه غاصب ليس من أهله ، فهي التي ترتجّ منها البلاد ، وتملك اليمن وحضر موت والحجاز ويجلّ سلطانها ويعظم شأنها حتى يكون تحت يدها ألف أمير ، وتحت يد كل أمير ألف قائد ، تحت يد كل قائد ألف جندي ، وإنه يتزوّج بها نبيّ يكون في زمانها يقال له سليمان ، تسمع له الجنّ والإنس والشياطين والسحاب والرياح ويسخّر ذلك كلّه له ، ويسمعون ويطيعون أمره ، ويفهم كلام الوحش والطير ، فيكون بيده نصف الأرض فاستوص أيها الملك بها خيرا إذ حرمتني قربها ، وانظر كيف تكون لها بعدي ، فلن تراني أبدا لا أراك بعد يومي هذا. ثم غابت عن بصره.
وعن ابن عباس قال :
كان سليمان إذا سار في ملكه فالإنس عن يمينه ، والجنّ عن يساره ، والشياطين بين يديه ، والوحوش خلفه ، والطير تظلّه والريح تحمله ؛ وكان دليله على الماء في المفاوز