فجاء الهدهد فدخل من الكوّة فألقى الصحيفة عليها ، ففرحت وظنّت أنه ألقي إليها من السماء فقالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ)(١) وظنّت أنّه من عند الله ، فمن هناك سمّته كريما ، فلو أنّها علمت أنّه من سليمان ما سمّته كريما ، وكانت هي أعزّ في نفسها من أن تسمّي كتاب سليمان كريما ، فلمّا فتحته قالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ، قالَتْ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ)(٢) قالوا : أيها الملكة ما أحد في الأرض أعزّ منا منعة ، ولا أقوى منا بمال ، ولا أشدّ منا بطشا ولا أبعد منا صوتا ، ولا أقهر منا عزا ، فنرى أن نسير إليهم (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ)(٣) فقالت : إن سليمان قد ادّعى أنه نبي ، فإن كان صادقا فإنّ الله معه ، ومن يكن الله معه يغلب ، وإن كان نبيّا ثم سرنا إليه أهلكنا بجنود الله ، وإن سار إلينا فوطئنا بمن معه من الجنود كان فساد بلادكم وأهل ملتكم ، ولكنّي باعثة إليه بهديّة ، فإن كان سليمان ملكا يرضى بالدنيا ويريدها (٤) ، فإنه سيرضى منّا بالهدايا واللّطف ، وإن كان نبيّا فإنه لا يرضى دون أن نأتيه مسلمين أو مقهورين ، فإن كان نبيا أتيناه مسلمين أحبّ إلينا من أن يطأ بلادنا ، فقال القوم : فأمرك عندنا طاعة ؛ فبعثت إليه بثلاث لبنات من ذهب في كلّ لبنة مائة رطل من ذهب ، وياقوتة حمراء طولها شبر ، مثقوبة ، وثلاثين وصيفا قد حلقت رءوسهم ، وثلاثين وصيفة قد حلقت رءوسهنّ ، وكتبت إليه : إنّي قد بعثت إليك بهديّة فاقبلها ؛ وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر مثقوبة فأدخل فيها خيطا ثم اختم على طرفي الخيط بخاتمك ؛ وبعثت إليك بثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة تميّز الغلمان من الجواري ولا تجرّد منهم أحدا. فلمّا فصلت الرسل (٥) من عندها جاء دمرياط ـ وكان أميرا على الشياطين ـ فقال لسليمان : إنّ بلقيس قد بعثت إليك بثلاث لبنات من ذهب ، وياقوتة حمراء ، وثلاثين وصيفا وثلاثين وصيفة ؛ فقال سليمان لدمرياط : افرشوا من باب مجلسي إلى طريق القوم ثمانية أميال في ميل عرضا لبن ذهب ، فبعث دمرياط الشياطين فقطعوا من الجبال الملس ، فموّهوه بالذهب ، ففرشوا من باب
__________________
(١) سورة النمل ، الآية : ٢٩.
(٢) سورة النمل ، الآيات ٣٠ إلى ٣٢.
(٣) سورة النمل ، الآية : ٣٣.
(٤) تعني أنه إن قبل هديتها ، فهي من الملوك أعز منه وأقوى.
(٥) بعثت الهدية مع رجل من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو انظر ما جاء من أقوال حول هديتها في أحكام القرآن ١٣ / ١٩٦.