والرّفعة ، ولجعل ذلك وسيلة لشكر تلك النّعمة والسّعي في زيادة الفضل لمن قصّر عنها والرّفق بالضّعيف وإنصاف المظلوم.
ولذلك عقّبه بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي ليخبركم فيما أنعم به عليكم من درجات النّعم حتّى يظهر للنّاس كيف يضع أهل النّعمة أنفسهم في مواضعها اللائقة بها وهي المعبّر عنها بالدّرجات. والدّرجات مستعارة لتفاوت النّعم. وهي استعارة مبنيّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه.
والإيتاء مستعار لتكوين الرّفعة في أربابها تشبيها للتكوين بإعطاء المعطي شيئا لغيره.
والبلو : الاختبار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥]. والمراد به ظهور موازين العقول في الانتفاع والنّفع بمواهب الله فيها وما يسرّه لها من الملائمات والمساعدات ، فالله يعلم مراتب النّاس ، ولكن سمّى ذلك بلوى لأنّها لا تظهر للعيان إلّا بعد العمل ، أي ليعلمه الله علم الواقعات بعد أن كان يعلمه علم المقدرات ، فهذا موقع لام التّعليل ، وقريب منه قول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطي يخطر بيننا |
|
لأعلم من جبانها من شجاعها |
وجملة : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل للكلام وإيذان بأنّ المقصود منه العمل والامتثال فلذلك جمع هنا بين صفة (سَرِيعُ الْعِقابِ) وصفة (لَغَفُورٌ) ليناسب جميع ما حوته هذه السّورة.
واستعيرت السّرعة لعدم التردّد ولتمام المقدرة على العقاب ، لأنّ شأن المتردّد أو العاجز أن يتريّث وأن يخشى غائلة المعاقب ، فالمراد سريع العقاب في يوم العقاب ، وليس المراد سريعه من الآن حتّى يؤوّل بمعنى : كلّ آت قريب ، إذ لا موقع له هنا.
ومن لطائف القرآن الاقتصار في وصف (سريع العقاب) على موكّد واحد ، وتعزيز وصف (الغفور الرحيم) بمؤكدات ثلاثة وهي إنّ ، ولام الابتداء ، والتّوكيد اللّفظي ؛ لأنّ (الرّحيم) يؤكّد معنى (الغفور) : ليطمئن أهل العمل الصّالح إلى مغفرة الله ورحمته ، وليستدعي أهل الإعراض والصدوف ، إلى الإقلاع عمّا هم فيه.