متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطّاقة على الاضطلاع بحمله ، فلا تصلح للرّسالة إلّا نفس خلقت قريبة من النّفوس الملكيّة ، بعيدة عن رذائل الحيوانية ، سليمة من الأدواء القلبية.
فالآية دالّة على أنّ الرّسول يخلق خلقة مناسبة لمراد الله من إرساله ، والله حين خلقه عالم بأنّه سيرسله ، وقد يخلق الله نفوسا صالحة للرّسالة ولا تكون حكمة في إرسال أربابها ، فالاستعداد مهيّئ لاصطفاء الله تعالى ، وليس موجبا له ، وذلك معنى قول بعض المتكلّمين : إنّ الاستعداد الذّاتي ليس بموجب للرّسالة خلافا للفلاسفة ، ولعلّ مراد الفلاسفة لا يبعد عن مراد المتكلّمين. وقد أشار ابن سينا في «الإشارات» إلى شيء من هذا في النّمط التّاسع.
وفي قوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) بيان لعظيم مقدار النبي صلىاللهعليهوسلم وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النّبوءة وانعدام استعدادهم ، كما قيل في المثل «ليس بعشّك فادرجي».
وقرأ الجمهور : (رِسالاتِهِ) ـ بالجمع ـ وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم ـ بالإفراد ـ ولمّا كان المراد الجنس استوى الجمع والمفرد.
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).
استئناف ناشئ عن قوله : (لِيَمْكُرُوا فِيها) [الأنعام : ١٢٣] وهو وعيد لهم على مكرهم وقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).
فالمراد بالّذين أجرموا أكابر المجرمين من المشركين بمكّة بقرينة قوله : (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) فإنّ صفة المكر أثبتت لأكابر المجرمين في الآية السّابقة ، وذكرهم ب (الَّذِينَ أَجْرَمُوا) إظهار في مقام الإضمار لأنّ مقتضى الظاهر أنّ يقال : سيصيبهم صغار ، وإنّما خولف مقتضى الظاهر للإتيان بالموصول حتّى يومئ إلى علّة بناء الخبر على الصّلة ، أي إنّما أصابهم صغار وعذاب لإجرامهم.
والصّغار ـ بفتح الصّاد ـ الذلّ ، وهو مشتقّ من الصّغر ، وهو القماءة ونقصان الشيء عن مقدار أمثاله.
وقد جعل الله عقابهم ذلّا وعذابا : ليناسب كبرهم وعتوّهم وعصيانهم الله تعالى. والصّغار والعذاب يحصلان لهم في الدّنيا بالهزيمة وزوال السّيادة وعذاب القتل والأسر