على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو «ليأتينني» بنونين الأولى مفتوحة مشددة.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ)(٢٢)
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه ، وقرأ عاصم بفتح الكاف. (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعني حال سبأ ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه ، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو وغير مصروف على تأويل القبيلة أو البلدة والقواس بهمزة ساكنة. (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) بخبر متحقق روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء. وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء. فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها.
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ)(٢٤)
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، والضمير لسبأ أو لأهلها. (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه الملوك. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها. وقيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا ، أو ثمانين في ثمانين من ذهب وفضة مكللا بالجواهر.
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) كأنهم كانوا يعبدونها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) عن سبيل الحق والصواب. (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) إليه.
(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(٢٦)
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من (أَعْمالَهُمْ) ، أو (لا يَهْتَدُونَ) إلى أن يسجدوا بزيادة لا. وقرأ الكسائي ويعقوب ألا بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :
وقالت ألا يا اسمع أعظك بخطّة |
|
فقلت سميعا فانطقي وأصيبي |
وعلى هذا صح أن يكون استئنافا من الله أو من سليمان والوقف على (لا يَهْتَدُونَ) ، فيكون أمرا بالسجود وعلى الأول ذما على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها ، وقرئ «هلا» و «هلا» بقلب الهمزة هاء و «ألا تسجدون» و «هلا تسجدون» على الخطاب. (الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثا على سجوده وردا على من يسجد لغيره ، و (الْخَبْءَ) ما خفي في غيره