كانت حاسّة صحيحة فلا تخلو أن تكون مما يصلح للرؤية أو لا ؛ فإن كانت مما لا يصلح للرؤية جاز أن نراه بحواسنا التي لا تصلح للرؤية ، وإن كانت مما يصلح للرؤية فلا تخلو أن تكون مماثلة لحواسنا أو مخالفة ، وإن كانت مماثلة لحواسنا جاز أن نراه بها ، وإن كانت مخالفة لحواسنا جاز أن نراه بحواسنا أيضا ؛ لأن مخالفتها لحواسنا ليست بأزيد من اختلاف حواسنا في ذات بينها ، ومخالفته تعالى للمرئيات ليست بأزيد من اختلاف المرئيات في أنفسها ، فإنّ في حواسنا الأحول ، والأدعج ، والأشهل ، والأزرق ، وغير ذلك. وفي المرئيات المتماثل والمختلف والمتضاد ، فكان يجوز أن نراه بحواسنا ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على إبطال قول ضرار. فهذا هو الذي يدل على إبطال قولهم على التعيين ، وهو الوجه الأول.
وأما الوجه الثاني : وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد قولهم على العموم فيدلّ على ذلك العقل والسمع ونحن نقتصر على السمع إذ صحته غير موقوفة على العلم بهذه المسألة (١).
والذي يدل على أنه تعالى لا يرى وجهان : أحدهما قول الله تعالى لموسى عليهالسلام : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] لمّا قال له موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) [الأعراف : ١٤٣]. ووجه الاستدلال بالآية أنّ لفظة لن موضوعة في لغة العرب لاستغراق النفي كقوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج : ٧٣] فهي
__________________
(١) خلاصة دليل العقل أنّ المرئيات لا بد أن تكون أجساما أو أعراضا ، ولا يتصور العقل رؤية غير ذلك ، وجمهور الأمة لا يتجرءون على القول بتجسيم الله ، ولذلك تستّر القائلون بالرؤية بقولهم : يرى بلا كيف ، وهو كلام غير مفهوم. أما المجسمة فليست لهم عقول يستحقون معها أن يناقشوا فهم والبهائم سواء بل هم أضل. والله أعلم وهو حسبنا.
(٢) ينظر في تفسير هذه الآية المغني ٩ / ١٦١.