عامة في نفي رؤية موسى له تعالى من دون تخصيص لوقت دون وقت. وذلك يدل على أن موسى لا يراه أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولأن لفظة لن موضوعة في اللغة لتأبيد النفي حقيقة ، وإذا استعملت في غير ذلك فعلى وجه المجاز ، فكأنه قال لموسى : لن تراني أبدا ، وإذا لم يره موسى ، فمن دونه أحرى بأن لا يراه. يزيد ذلك وضوحا أنه علّق الرؤية في المستقبل بشرط استقرار الجبل عند تحريكه ، وهذا الشرط لم يحصل فلا تحصل الرؤية في المستقبل ، ولأنه علّق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل في حال تحريكه وتدكدكه وهو لم يستقر (١) في تلك الحال كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣] وإذا علّق تعالى رؤيته بشرط مستحيل وجب أن تستحيل رؤيته أيضا ، وهذه طريقة العرب فيما يريدون به التبعيد وتأكيد التأبيد كما قال شاعرهم :
وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم |
|
حتى يحالف بطن الراحة الشّعر (٢) |
وإذا ثبت ذلك قلنا : إن موسى لم يسأل الرؤية لنفسه ، بل هو عالم بأنه تعالى لا يرى ، وإنما سأل الرؤية عن قومه وجعل السؤال لنفسه ليعلم قومه أنه إذا منع الرؤية فهم أولى بالمنع ، يصدّقه قول الله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] وهذه الآية شاهدة بتنزيه الله تعالى عن الرؤية ؛ لأن إنزال الصاعقة بهم يدلّ على عظيم (٣) جرمهم في
__________________
(١) في (ب) : لا يستقر.
(٢) وأيضا قول الشاعر :
ولو طار ذو حافر قبلها |
|
لطارت ولكنه لم يطر |
(٣) في (ب) (ج) : عظم.