الوجه الثاني : قول الله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣]. ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه تمدّحا راجعا إلى ذاته. وإدراك الأبصار هو رؤيتها (١). وكل ما تمدّح الله تعالى بنفيه فإثباته نقص ، والنقص لا يجوز عليه في حال من الأحوال. فثبت أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. وإنما قلنا : بأن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه ؛ لأنّ ذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ ولأنه متوسّط بين أوصاف المدح ؛ فإن الله تعالى قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣] ، فأول الآية مدح وآخرها مدح فيجب أن يكون قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مدحا أيضا ؛ لأنه لا يجوز أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح ، بل يكون ذلك مستهجنا عند الفصحاء ، معيبا عند البلغاء. وكلام الله تعالى يجب أن ينزل من الفصاحة أعلاها.
فثبت أنه تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه. وإنما قلنا : بأن التمدّح راجع إلى ذاته ؛ لأنه تعالى بيّن بذلك أنّ ذاته لا تدرك ؛ ولأنه لو كان راجعا إلى غيره (٢) لم يعقل إلا نفي فعل من الأفعال ، وذلك لا يتحقق إلا في الإدراك لو
__________________
(١) في (ب) : رؤيتهما.
(٢) قال الأمير رحمهالله : ولأنه لو كان راجعا إلى غيره لم يعقل إلا نفي فعل ...