العقل ؛ لأن القول برؤيته تعالى يوجب (١) كونه محدودا في محاذاة ما ؛ إذ الرؤية لا تصحّ إلا على متحيّز. أو قائم بمتحيّز ، مثل الكون لا ينطبق إلا على جسم متحيز ، وقد ثبت حدوث المتحيزات وقدمه تعالى ؛ فلا يجوز القول بخلافه. ومنها أنّ القول بجواز رؤيته تعالى يؤدي إلى مناقضة القرآن ، نحو قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وذلك عموم لا تخصيص فيه. وقوله تعالى لموسى عليهالسلام : (لَنْ تَرانِي) ، فنفى نفيا عامّا. وإذا كان القول بمناقضة القرآن محالا كان ما أدّى إليه محالا ، وهو القول برؤيته تعالى ؛ لأن ما أدى إلى المحال فهو محال. ومنها أنّ نمط الآية لا ينبئ عن الرؤية بل يبطلها ؛ لأنه تعالى قال في نقيضه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٤ ـ ٢٥] فلمّا أوجب للكفار خوف العقاب دون المنع من الرؤية ـ وجب أن يكون ما وعد به المؤمنين انتظارا للثواب دون الفوز بالرؤية. (٢) ومنها أنّ الوجه لا يرى ولا يكون رائيا على الحقيقة ، فلا يجوز حمل قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، على الرؤية ، وذلك شائع في اللغة ، قال حسان بن ثابت :
__________________
(١) في (ج) : توجب ويوجب ، وفي الأصل : توجب ، وفي (ب) : يوجب وهو الأظهر ، ولذلك أثبتناه.
(٢) يقال في علم البلاغة إن في الآيات مقابلة ، وهي لون من ألوان البديع فقابل بين وجوه ناضرة أي مشرقة جميلة بقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي قبيحة كالحة ، وناظرة بمعنى منتظرة لرحمة الله قابلها بقوله في أهل النار : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)! أي تتوقع البوار كما تنتظر تلك النعيم ، هذا هو النّسق العالي للقرآن ، ولا معنى للرؤية هنا مطلقا ؛ لأن نظم القرآن سيكون شاذّا بشعا إذا قلنا : وجوه جميلة ترى الله ، ووجوه قبيحة تتوقع الهلاك ، ولهذا فلا يجوز تحميل القرآن ما لا يحتمل.